المتأمل في الواقع السوري الراهن بعد أشهر من انطلاق دبلوماسية التطبيع التركية مع سوريا، يجد نفسه أمام رزمة أحجيات تبدو للوهلة الأولى عصية على الفهم، مثلما هي ملتبسة على الإدراك.
سنوات من الحرب لم يسلم منها بشر أو حجر أو شجر، أعادت عقارب ساعة البلاد والعباد إلى الوراء عقوداً بمقاييس الزمن، وحقباً بمفهوم الأجيال والأمم والدول.
كاد اليأس يلتهم ما تبقى من جذور الوجود وعلامات التاريخ ومعالمه. هذه المكاشفة المكثفة لا تنطوي على مبالغة نابعة من إحباطٍ تسلل إلى قاع النفوس، ولا من عاطفة جياشة تؤججها التناقضات.
المتاهات على طريق التطبيع بين البلدين كثيرة. المفخخات المزروعة على جانبيه لا تُحصى. المتضررون من وصول قطار التطبيع إلى محطته الأخيرة يتربصون ويراهنون على المتناقضات.
النوايا منطلقٌ مهم، لكنها لا تكفي لتشييد بناء الثقة كأساس أولي لطرح خطط ومسارات التفاهم والاتفاق. إرادات السياسيين تتبلور ببطء، رغم ضغط المصالح المشتركة بينهما لتجاوز الأمس بجميع حمولاته الثقيلة ومخاطر إرثه.
لا يخفى على أي طرف منهما ما لدى نظيره من أوراق يمكن توظيفها بالضد. في الآن ذاته يعلم كل جانب فوائد وعوائد أوراق الخصم عليه عندما تحين لحظة الاتفاق.
على الضفة التركية حزمة أوراق يمكن إدراجها تحت هذا التشخيص؛ بمعنى أنه يمكن تحويلها من أدوات ضغط إلى عربون اتفاق، والعكس ينطبق تماما على الضفة السورية.
أنقرة تستطيع نزع عوامل القلق السوري من خلال ترتيب ملفات المسلحين واللاجئين وكذلك ملف وجودها في بعض مناطق الشمال السوري، وهي بذلك تحقق أهدافها بطرح أعباء هذه الملفات عن كاهلها.
في المقابل يمكن لدمشق أن تُطَمْئن الجانب التركي بخطوات متعلقة بضمان حدودها الجنوبية عبر نشر وحدات من جيشها على التخوم الفاصلة بين الطرفين.
السؤال: كيف يمكن للجيش السوري الانتشار في بعض المناطق المرشحة في الشمال والشمال الشرقي لتكون خطوط فصل بين تركيا وقوات "قسد" التي تعتبرها أنقرة تهديدا مباشرا لها ولأمنها القومي؟ وهل يسمح الجيش الأمريكي المنتشر في شرق وشمال شرق البلاد للجيش السوري أن يقوم بهذه المهمة؟ وما هو السبيل لحل هذه الأحجية؟ ومن هو الطرف المؤهل لخوض غمار تفكيكها؟
يشكل العامل الأمريكي عنصر تفجير متأهباً في هذه الدائرة، وتتفق أنقرة وموسكو ودمشق على ذلك، وهم يعملون على تدوير زوايا المعضلة. بمقدور سوريا فرض إرادتها سياسيا وعسكريا ولو جزئيا على "قسد" من خلال سياقين؛ الأول الاتفاق على توحيد جهودهما عسكريا في مواجهة التحديات التي قد تطرأ على الأرض خلال مسار التفاوض مع الجانب التركي إلى حين الوصول إلى اتفاق شامل، والثاني استثمار علاقات موسكو مع تركيا وقيادة "قسد" في جسر الهوة بينهما وبلورة اتفاقات تؤمّن مصالح الجميع.
لكن ما مدى استعداد واشنطن لقبول وتمرير اتفاقات وتفاهمات كهذه بين تلك الأطراف؟.. في خضم الصراع المتنامي بين الولايات المتحدة وروسيا على الساحة الأوكرانية، كساحة من صراع أعم وأشمل يغطي ساحات العالم، لا يبدو أن الأمر يمكن أن يمر بسهولة ويُسر، بل العكس هو المرشح أكثر؛ أي أن واشنطن لن تدخر سبيلا للضغط على روسيا في أي ساحة دولية، بل ستكون طرفا رئيسيا في منازعتها ومشاغلتها، والأمر ينسحب على الساحة السورية ميكانيكيا، ليبرز في ثنايا هذا المشهد أهمية الدور التركي لدى الأمريكيين.
وبرهنت تركيا في سياستها الخارجية على نزعتها الاستقلالية في كثير من القضايا الدولية رغم علاقاتها العميقة والعضوية مع واشنطن ومع الناتو، وكانت تتخذ قراراتها بهدي مصالحها قبل كل شيء، وربما كانت موافقتها على انضمام فنلندا إلى الناتو وتعطيل انضمام السويد لأسباب مرتبطة بمصالح تركيا أحد الدلائل على ذلك.
وفي المشهد السوري الراهن تبدو مصالحها الحيوية والاستراتيجية متقدمة على الحسابات العابرة والطارئة؛ فأحد مفاتيح الخروج من هذه المتاهة الناشئة عن تشعبات الملف السوري بيد أنقرة لطرق باب واشنطن.
ورغم أن تلك المتاهة متعرجة المسالك، مبهمة الآفاق والنهايات، لكنها قد تكون الأقل ضررا في حال نجح اللاعبون في رسم طريق الخروج منها؛ لأن البديل سيكون الاحتكام للنار والبارود مجدداً في منطقة ترتفع درجة غليانها بشكل مطرد.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة