مجزرة بوتشا.. من يتلاعب بالأزمة الإنسانية في أوكرانيا ولمصلحة من؟
وسط دخان القصف، تدور حرب أخرى في أوكرانيا، وقودها الإعلام والدعاية، ما يجعل المتابع المستقل حائرا بين الشيء ونقيضه، والتأكيد والنفي.
فـ"سلاح الدعاية" في روسيا أو الغرب، يخلق سحابته الخاصة، ويفاقم وضعية "اللاحقيقة"، في ظل صعوبة التأكد والتثبت من الأوضاع الميدانية من مصادر مستقلة للظروف الأمنية الصعبة.
وخلال الأيام الماضية، تبادلت روسيا من جهة، وأوكرانيا والغرب من جهة أخرى، الاتهامات حول المسؤولية عما بات يعرف إعلاميا بـ"مجزرة بوتشا"، ما يعكس تحكم الدعاية في الحرب المستمرة منذ أكثر من 6 أسابيع.
وبينما اتهمت كييف روسيا بارتكاب "مجزرة" غداة العثور على عشرات الجثث فى مدينة بوتشا، الواقعة شمال غربى العاصمة بعد انسحاب القوات الروسية، ذكرت وزارة الدفاع الروسية أن جميع الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي نشرها النظام في أوكرانيا، هي "استفزاز آخر".
كما أكدت الوزارة بلغة قاطعة، "خلال الوقت الذي كانت فيه هذه المدينة تحت سيطرة القوات المسلحة الروسية، لم يتعرض أي أحد من سكانها لأي أذى أو أي أعمال عنف".
وأشارت الوزارة إلى أن جميع الوحدات الروسية غادرت "بوتشا" بالكامل في 30 مارس/آذار، ولم يتم إغلاق مخارج المدينة في الاتجاه الشمالي، بينما قصفت القوات الأوكرانية، على مدار الساعة، الأطراف الجنوبية للمدينة، بما في ذلك المناطق السكنية، من المدفعية الثقيلة للدبابات وأنظمة إطلاق صواريخ متعددة.
فبركة أم فظائع
فيما نقلت قناة"آر تي عربية" الروسية عن سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، قوله قبل أيام، "جرى شن هجوم وهمي (مزيف) آخر في مدينة بوتشا بمنطقة كييف، بعد أن غادرت القوات الروسية من هناك وفقا للخطط".
وتابع "أقيم هناك عرض مسرحي بعد أيام قليلة، وتم نشر الفبركات عبر جميع القنوات والشبكات الاجتماعية من قبل الممثلين الأوكرانيين ورعاتهم الغربيين".
وتستعين السلطات الروسية أيضا، بتصريحات لرئيس بلدية "بوتشا"، أناتولي فيدوروك في 31 مارس/آذار، أكد خلالها عدم وجود جنود روس في المدينة، وهو في تلك المناسبة لم يشر من قريب أو بعيد إلى حوادث إطلاق نار على سكان محليين في الشوارع وأيديهم مقيدة.
مجلس الأمن
وفي وقت لاحق، قال لافروف إن بريطانيا التي ترأس مجلس الأمن الشهر الحالي، رفضت للمرة الثانية طلبا روسيا لمناقشة هذا الاستفزاز، متابعا أن "روسيا تصر على بحث الأمر على أعلى المستويات".
وفي نيويورك، أكد المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا، أن موسكو ستقدم قريبا لمجلس الأمن الدولي الوقائع حول الأحداث في مدينة بوتشا الأوكرانية.
وأضاف أن "الوكلاء الغربيين ينشرون فبركات عن تصرفات سيئة لروسيا في المدينة لتشويه سمعتها، مشددًا على أن العسكريين الروس لا علاقة لهم بالاستفزاز الذي جرى في هذه المنطقة".
وفيما يؤكد الطرف الروسي على وجود أدلة دامغة بحوزته تثبت زيف ادعاءات كييف، شددت وزارة الدفاع الأمريكية في الوقت نفسه على عدم إمكانيتها بشكل مستقل تأكيد التقارير حول ارتكاب القوات الروسية لما سمي بالفظائع المزعومة في مدينة بوتشا الأوكرانية.
وفي كييف، قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، للصحفيين الذين رافقوه خلال زيارته مدينة بوتشا: "من الصعب جدًا التفاوض مع روسيا بالنظر إلى ما فعلته في بلادنا".
وأضاف "ما جرى في مدينة بوتشا إبادة جماعية"، متابعا "لن نهدأ حتى نحدد المسؤولين عن الإبادة في العاصمة كييف".
تحقيق مستقل
أما عن مواقف الأطراف الثالثة، دعت تركيا، اليوم الأربعاء، إلى فتح تحقيق مستقل، بعد انتشار صور وفيديوهات لقتلى مدنيين في بلدة بوتشا ومدن أخرى في أوكرانيا.
فيما أعلن مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، تشانغ جون، أن جميع الاتهامات الموجهة إلى روسيا على خلفية "حادثة بوتشا" يجب أن تستند إلى حقائق.
وخلال جلسة عقدها مجلس الأمن الدولي اليوم الثلاثاء، أشار الدبلوماسي الصيني إلى وجوب "التحقيق بدقة" حول ما حدث في مدينة بوتشا قرب العاصمة الأوكرانية كييف.
وقال تشانغ جون: "التقارير وصور المدنيين القتلى في بوتشا تثير الصدمة. الأسباب المباشرة للحادث لا بد من تحديدها.. جميع الاتهامات يجب أن تستند إلى حقائق قبل استخلاص أي استنتاجات. وعلى الأطراف التحلي بضبط النفس وتجنب توجيه اتهامات لا أساس لها".
كما دعا الدبلوماسي الصيني الولايات المتحدة والناتو والاتحاد الأوروبي إلى "حوار بناء" مع روسيا من أجل تسوية الخلافات معها، مؤكدا أن "الحوار هو السبيل الوحيد لإحلال السلام في أوكرانيا".
كما لفت المندوب الصيني إلى أنه "لا ينبغي تسييس العمل الإنساني وعمل الوكالات الإغاثية"، مشددا على أن "العقوبات ليست حلا فعالا للأزمة الأوكرانية بل ستؤدي إلى سرعة تمددها".
بدوره، أعرب وزير الخارجية الهندي الأربعاء عن "انزعاجه الشديد" من مقتل مدنيين في مدينة بوتشا الأوكرانية، لكنه لم يصل إلى حد إلقاء اللوم على روسيا ودعا إلى إجراء تحقيق مستقل.
وقال وزير الخارجية س. جايشانكار أمام البرلمان الأربعاء إن الهند "منزعجة بشدة" و"تدين عمليات القتل"، مضيفا "هذا أمر خطير جدا ونحن نؤيد الدعوة الى تحقيق مستقل".
حرب الدعاية
ويرى مراقبون أن الدعاية وصناعة الصورة جزء من الحرب، ما يحول الأزمات الإنسانية إلى موضوع سياسي، ومحور جدل عالمي، لتحقيق أهداف سياسية، أو تشويه الطرف الآخر وعزله في الساحة الدولية.
وفي ظل الرويات المختلفة، والاتهامات المتبادلة، تتوه الحقيقة، وتخفت أصوات التحقق المستقل من الأحداث، حتى وإن علت الأصوات المطالبة بتحقيق شامل ومستقل في الملف، وهذا ينسحب على ما حدث في "بوتشا".
وعن حرب الدعاية فيما يتعلق بـ"بوتشا"، قال الكاتب والصحفي، مشاري الذايدي، في مقال بصحيفة الشرق الأوسط السعودية: "من السذاجة بمكان تصوير الحرب بين روسيا والغرب من خلال الساحة الأوكرانية، بمظهر مثالي، على هيئة حرب بين الخير والشر، النور والظلام، الحرية والعبودية".
وتابع أن الخبر المسيطر على ملف الدعاية، هو "مجزرة" بلدة "بوتشا" حول العاصمة "كييف"، مضيفا "معلوم أنه في كل حرب تظهر صورة أو أيقونة تختصر الحرب، مثل غرنيكا في الحرب الإسبانية وما شاكل ذلك".
وقال الكاتب السعودي: "الروس يكذبون الاتهامات الغربية بارتكاب جيشهم جرائم ضد المدنيين، والغرب يؤكد، وتستشهد الميديا الروسية بتعليق من وصفته بالصحفي الأمريكي مايكل تريس، أن مواد الفيديو حول مدينة (بوتشا) بمقاطعة كييف التي روّجت لها السلطات الأوكرانية تهدف إلى دفع أمريكا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى المشاركة في الأعمال العسكرية في أوكرانيا".
وتابع: "في ظل الانقسام الحالي، يصبح الإعلام وصناعة الصورة أداة من أدوات الحرب، هنا وهناك، فمن المعلوم أنه لا مفاجأة إن قلنا بهيمنة الدولة الروسية على صناعة الصورة والرأي داخل حدودها، لا جديد في ذلك! لكن الأخفى والأغمض هو فعل ذات الشيء في العالم الليبرالي الغربي "الحرّ"، هنا تصبح المسألة أكثر حاجة للكشف".
ولفت إلى أن هذا السلوك، أي "صناعة صورة مزيّفة، في الميديا لخدمة هدف سياسي، ليس جديداً، على الأقل سبق لهوليوود".
ومضى قائلا "وبعد... فمن المؤكد أن الجيش الروسي ارتكب بشاعات في أوكرانيا، ومثله الجيش الأوكراني أيضاً ضد محاربي روسيا، لكن المهم ألا تُؤخذ عقولنا في زحمة الزيف".