أوكرانيا تحرك خلافا بين إيطاليا وأمريكا.. هل يتصدع الناتو؟
منذ بداية الحرب في أوكرانيا، تعمد حلف شمال الأطلسي (الناتو) الظهور موحدا وقويا في مواجهة روسيا، لكن لا ما يبديه المظهر لا يدعمه الجوهر.
فعلى مدار ثلاثة أشهر، هي عمر الصراع في أوكرانيا حتى الآن، برز على السطح بعض مما يدور في الغرف المغلقة ويعكس اختلافات داخلية لا تتماشى مع صورة الوحدة، وكان آخرها تباين بين إيطاليا والولايات المتحدة.
ذلك التباين، جنبا إلى جنب مع خلاف آخر بين ألمانيا والولايات المتحدة حول الاعتماد على الغاز الروسي، يعكس سيناريو موازيا لصورة الوحدة والقوة التي يروج لها الإعلام الغربي عن "الناتو"، وهو سيناريو الخلاف والتصدع، وفق مراقبين.
الخلاف الإيطالي الأمريكي، بدا واضحا في تباين التصريحات بين الطرفين عقب لقاء رئيس الوزراء ماريو دراجي بالرئيس الأمريكي جو بايدن، في واشنطن، أمس الثلاثاء.
وقال دراجي إن الناس في إيطاليا وأوروبا يودون رؤية انتهاء "العنف والمجازر"، متابعا "الوقت قد حان للتفكير بعمق بشأن ترتيب وقف لإطلاق النار".
وأضاف: "يريد الناس التفكير في إمكانية التوصل إلى وقف لإطلاق النار والبدء في الانخراط في مفاوضات ذات مصداقية".
لكن المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، قالت في تعليق على تصريحات دراجي، إنّ الولايات المتّحدة تدعم كل المساعي الدبلوماسية الرامية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، مضيفة "لكنّنا لا نرى أيّ مؤشّر من جهة الروس يدلّ على أنّهم مستعدّون أو راغبون في الانخراط في محادثات".
وتابعت: "الحل للحرب هو عملية دبلوماسية، لكننا نعتقد أن هذه الحرب ستكون طويلة، وعلينا الاستعداد لذلك".
ورغم هذا الخلاف الواضح في المواقف؛ إذ تدعم إيطاليا وقفا سريعا لإطلاق النار وتضغط الولايات المتحدة على زر الحرب الطويلة واستنزاف الروس، فإن بايدن عمد خلال لقاء دراجي على الترويج لصورة "الناتو القوي والموحد"، عندما قال "فلاديمير بوتين (الرئيس الروسي) اعتقد أنّ بإمكانه أن يفرقنا".
ومنذ بداية الحرب في أوكرانيا، أيّدت الحكومة الإيطالية، فرض عقوبات على روسيا، رغم اعتماد روما على الغاز الروسي وعلاقاتها التقليدية القوية مع موسكو.
ومثل باقي الحلفاء الغربيين، سلّمت روما أسلحة إلى كييف رغم تصاعد القلق بشأن ذلك في الائتلاف الحكومي الواسع الذي يقوده دراجي، والذي يمتد من أقصى اليمين إلى اليسار.
لهجة أكثر حدة
وتعليقا على الخلاف بين إيطاليا وأمريكا، قالت شبكة إيه بي سي نيوز الأمريكية، "لا تزال هناك اختلافات في اللهجة بين روما وواشنطن بشأن الحرب الأوكرانية، والمشاعر العامة في إيطاليا ضد إرسال أسلحة إلى أوكرانيا آخذة في الازدياد".
وتابعت: "يضغط دراجي من أجل هدنة محدودة للسماح باستئناف المحادثات بين كييف وموسكو، ويراعي التأثير المحتمل على إيطاليا في حالة انتشار الحرب عبر حدود أوكرانيا"، مضيفة: "كانت تصريحات بايدن ومسؤولي إدارته أكثر عدوانية، مما يشير إلى الرغبة في إضعاف روسيا".
ومضت قائلة: "لا تعكس هذه الاختلافات مع واشنطن، التقارب الجغرافي لإيطاليا مع منطقة الحرب فحسب، بل تعكس أيضًا روابطها السياسية والاقتصادية التاريخية مع روسيا".
وتحصل إيطاليا على 40 في المائة من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، وبلغ حجم التجارة البينية مع موسكو العام الماضي، 20 مليار يورو (21 مليار دولار)، معظمها يذهب لمشتريات الطاقة.
فيما قال سيرجيو رومانو، السفير الإيطالي في موسكو في فترة الحرب الباردة، لوكالة "أسوشيتد برس": "هناك تياران فيما يتعلق بروسيا.. هناك الدول التي ترى في الحرب بأوكرانيا إمكانية أو أمل في تضاؤل القوة الروسية، وأعتقد أن هذا التيار قوي في الولايات المتحدة".
لكنه تابع قائلا: "لا أعتقد أن هذا هو موقف الحكومة الإيطالية، التي كانت تربطها في الماضي علاقات ودية وإيجابية مع روسيا".
ووفق "إيه بي سي" نيوز، لا يعتقد أن دراجي الخبير البنكي السابق الماهر جدا في وزن كلماته، والذي يعد من قادة الاتحاد الأوروبي القلائل الذين زاروا واشنطن منذ بداية الحرب، يمثل موقف إيطاليا فقط، وإنما أوروبا أيضا.
كما أن دراجي مدفوع في موقفه، برأي عام داخلي في إيطاليا رافض لتسليح أوكرانيا، إذ أصبح تسليح كييف قضية سياسية في إيطاليا في الفترة الماضية، مع تزايد المعارضة الشعبية لإرسال أسلحة إيطالية خوفًا من إثارة صراع أوسع يمتد إلى دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) المجاورة، وفق تقارير صحفية أوروبية.
إرسال الأسلحة
ويتمسك الحزب الذي يملك أكبر عدد مقاعد في البرلمان ويشارك في الائتلاف الحاكم بإيطاليا (حركة 5 نجوم،)على شحن الأسلحة الدفاعية قصيرة المدى فقط إلى أوكرانيا.
ويرفض إرسال أي أسلحة ذات قدرات هجومية، بينما يعارض زعيم اليمين ماتيو سالفيني، وزير الداخلية السابق، إرسال المزيد من شحنات الأسلحة إلى أوكرانيا. كما أن أعضاء الحزب الديمقراطي "يسار"، طالبوا دراجي، بحث الولايات المتحدة. على خفض لهجتها تجاه روسيا.
وقال ريناتو مانهايمر، عالم الاجتماع الإيطالي في تصريحات صحفية، إن الشعور العام ضد إرسال الأسلحة إلى أوكرانيا نما بشكل متزايد ليبلغ نصف الشعب الإيطالي تقريبًا، مضيفا "جزء من هذه المشاعر متجذر في النزعة السلمية الإيطالية، المرتبطة جزئيًا بقرب إيطاليا من الفاتيكان".
وتابع "كما أنها مرتبطة أيضا برفض حروب قادتها الولايات المتحدة على أرض أجنبية"، مضيفا أن ذلك يرافقه مخاوف من إشعال حرب أوسع قد تتصاعد إلى تهديد نووي".
فيما يرى الخبير في موقع "ديكود٣٩" الإيطالي، ماسيميليانو بوكوليني، في حديث لـ"العين الإخبارية"، إن المشكلة تكمن في قضيتي وقف إطلاق النار وتسليح أوكرانيا، لكن تبقى إيطاليا أقرب للموقف الأمريكي من فرنسا وألمانيا.
وتابع: "إيطاليا تريد وقف إطلاق النار لفتح مجال أمام محادثات الحل الدبلوماسي، وتدعم أيضا إرسال أسلحة إلى أوكرانيا" رغم التباين حول نوعية ودرجة قوتها (دفاعية أو هجومية) هذه الأسلحة في الائتلاف الحاكم.
التباين الإيطالي الأمريكي، يعيد للواجهة خلافا آخر داخل حلف شمال الأطلسي طرفه الولايات المتحدة أيضا، لكن الطرف الثاني هو ألمانيا، ويدور حول قضية وقف إمدادات الغاز الروسي.
وتضغط واشنطن على ألمانيا من أجل وقف واردات الغاز من روسيا، لأن أمريكا ترى أن اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية من شأنه أن يضع الألمان دائمًا تحت رحمة موسكو، ويعزز أهمية موسكو الإقليمية، وفق مراقبين.
الولايات المتحدة ترى أيضا، أن من شأن تحسين علاقات ألمانيا في مجال الطاقة، مع روسيا أن يهدد التعاون عبر الأطلسي، لكن برلين لا تزال متمسكة بواردات الغاز الروسي خوفا على اقتصادها، وفق المراقبين.
بيد أن المخاوف الأمريكية الأكبر في هذا الإطار، متعلقة بألمانيا وأيضا فرنسا، إذ تخشى واشنطن أن تردد ألمانيا وفرنسا المرتبط باعتمادها على الغاز الروسي، في العقوبات المفروضة على روسيا وتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة حديثة، يمكن أن يؤدي إلى تعميق المصالح المتباينة بين حلفاء "الناتو"، وفق المراقبين.
حرب الاستنزاف
وفي هذا الإطار، تقول أستاذة العلاقات الدولية التركية، أوزدين زينب أوكتاف، في مقال سابق "يعتبر السيناريو الأسوأ بالنسبة لألمانيا وفرنسا هو نزاع طويل الأمد بين أوكرانيا وروسيا، إذ تصدر الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المزيد والمزيد من التصريحات الاستفزازية ضد بوتين، ويرسلان مدفعية ثقيلة وذخيرة وطائرات بدون طيار إلى أوكرانيا لتحقيق هدف الحرب الطاحنة التي لا ينتصر فيها أحد".
لكن ألمانيا وفرنسا، يخشيان بشكل أساسي، انتشار حرب الاستنزاف هذه عبر الحدود وتهديدها بشكل تلقائي القارة الأوروبية، وهو سبب الخلاف بين برلين وفرنسا من ناحية، وواشنطن من ناحية أخرى، وفق أوكتاف.
وخلصت الخبيرة التركية إلى أن حلف شمال الأطلسي في وضع محفوف بالمخاطر بسبب الاختلافات في قضايا الأمن أو العلاقات الخارجية بين الدول الأعضاء، وهو ما ظهر في الأزمة الأوكرانية الراهنة.
ويرى مراقبون أن التباين في المواقف تجاه الحرب في أوكرانيا، بين إيطاليا والولايات المتحدة، وبين الأخيرة وفرنسا وألمانيا، تعكس موقفان متعارضان داخل حلف شمال الأطلسي، بين رؤية متشددة ترى في الحرب فرصة لإضعاف موسكو وتقودها واشنطن ولندن، ورؤية أكثر تحفظا تمنح اعتبارات الأمن والاقتصاد الأولوية في إدارة الصراع، وتقودها الدول الأوروبية نظرا لاعتبارات القرب الجغرافي من القتال.
هذا التباين، يعكس واقع الناتو في الوقت الحالي، ويضع التحالف على حافة الخطر، وسط مخاوف من تصدع محتمل، وفق المراقبين.