يدرك بوتين أن الصراعات تخلق مصالح، والمصالح تخلق فرصا، والفرص يمكن أن تتحول إلى مكاسب مباشرة لموسكو
أكثر الأطراف الدولية سعادة من تأجج الصراع بين إيران والولايات المتحدة على مستوى المنطقة هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
يدرك «بوتين» أن التصعيد فيه إضعاف للطرفين الأمريكي والإيراني على حد سواء، ويجعل كلاً من واشنطن وطهران في حاجة متزايدة إلى «التفاهم السياسي» مع موسكو.
الأمريكي يدرك أن إيران التي ترتبط ببحر قزوين ومصالح الغاز وخلق التنسيق حول سوريا مع الروس ليس لديها دولياً سوى «الحصن الروسي» كي تستنجد به في حال انفلات الأمر وانزلاق التصعيد إلى مواجهة.
الأمر المؤكد أنه كيفما صارت الأمور في الشرق الأوسط، وكيفما ذهبت الأمور إلى مواجهة عسكرية محدودة أو واسعة أو إلى تفاوض التسوية فإن روسيا هي الرابح الأكبر -أو على أقل تقدير- لن تخسر
وواشنطن تدرك أن ترتيبات حصار إيران إلى حد الخنق الاقتصادي يستلزم بالضرورة التنسيق مع اللاعب الروسي.
وتشعر براحة مصادر الكرملين الآن لنتائج تحقيق «لجنة مولر» التي لم توجه إدانة مباشرة للرئيس دونالد ترامب حول وجود شبهة أي علاقات مخالفة للقانون أو العرف السياسي مع روسيا في فترة التمهيد للانتخابات الرئاسية.
باختصار، دونالد ترامب الآن هو الرئيس المناسب، بل الأفضل للمصالح الروسية بوجه عام وللرئيس بوتين على المستوى الشخصي.
ولأن فلاديمير بوتين يستحق «الأوسكار السياسي» في لعبة انتهاز الفرص في الصراعات من الضغط إلى المقايضة إلى التهديد، وصولاً إلى الابتزاز، فإنه يرى أن كل الظروف الدولية والإقليمية مواتية تماماً له، للأسباب التالية:
1- الرئيس الأمريكي المختلف مع الكونجرس يجعله غير قابل للدخول في صراع كبير مع روسيا ولكن يمكن أن يكتفي بتصريحات وتغريدات ساخنة للاستهلاك المحلي.
2- أن الولايات المتحدة المتصادمة مع إيران في حاجة إلى تنسيق وتفاهم مع روسيا، مما يجعل موسكو في وضع المساومة على ثمن هذا التفاهم.
3- رفض روسيا وضغطها على إيران لعدم القيام بعمليات ضد مراكز الاستطلاع والمخابرات الحربية في سوريا يجعل روسيا في وضع يطالب بثمن في القبول الأمريكي بالوجود الروسي والقبول برؤية موسكو حول شبه جزيرة القرم.
الجائزة الكبرى التي تسعى إليها موسكو من الاستفادة من الوضع الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط هو بدء ترتيبات رفع العقوبات الأمريكية على روسيا عقب ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعد 18 شهراً.
«بوتين» قديم في لعبة السياسة والأمن، فهو ضابط بارز منذ أوائل الثمانينيات، وله دوره في جهاز الاستخبارات الروسية، ويلعب دوره المميز في السلطة التنفيذية منذ عام 1999.. ومنذ عام 2000 حتى عام 2017 وهو يحصل على المركز الأول كأكثر شخصيات العالم تأثيراً.
والرجل هو الشخص الأقوى في السياسة الروسية منذ «ستالين»، ولكن دون أن يضطر أن يقتل 35 مليون قتيل ومعتقل، ورغم ذلك فإن «بوتين» هو حاكم فردي بامتياز.
يسيطر «بوتين» سيطرة كاملة على مفاصل السلطة التنفيذية في البلاد، وله الكلمة الأولى في الشؤون الأمنية وقرارات الحرب والسلام، وفي حجم واتجاه الاستخبارات «من وإلى روسيا».
ويمسك «بوتين» بقبضة حديدية مفاتيح الأمن والاقتصاد والسياستين الداخلية والخارجية في روسيا، لذلك فإن مسألة حسم قرار سياسي كبير أو صفقة تجارية عظمى أو نوعية مبيعات سلاح يمكن أن يتم حسم قراره وبنوده وتفاصيله وأسعاره ومواعيد تسليمه وبرنامجه التدريبي في أقل من نصف يوم، بالمخالفة للصعوبات التي يواجهها أي «زبون» يطمح في أي تعاون عسكري أو تجاري مع الأمريكيين بسبب قيود وقواعد النظام الديمقراطي عنده.
لذلك كله يمارس «بوتين» اللعبة السياسية ويسهل عليه إصدار القرار في الداخل والخارج مهما تعقدت الأمور أو تصاعدت التوترات.
روسيا لا تمانع من وجود حاملتي الطائرات الأمريكيتين «إبراهام لينكولن» و«نيمتز» في مياه الخليج العربي.
ويدرك «بوتين» أن التطور غير المسبوق في علاقات الرياض وأبوظبي والدوحة مع موسكو في السنوات الأخيرة يرجع إلى رغبة دول المنطقة في تقليل الاعتمادية المطلقة على واشنطن كمصدر وحيد للدعم السياسي ومبيعات السلاح.
والفهم الصحيح لرؤية «بوتين» للعالم العربي يعتمد على التعامل مع العالم العربي على أنه «كنز مصالح استراتيجي»، ومن ثم يصبح حكام تلك المنطقة من أفضل زبائن الكرملين.
«الزبون»، «أي زبون»، هو صاحب حظوة في الكرملين.
يدرك «بوتين» أن الصراعات تخلق مصالح، والمصالح تخلق فرصاً، والفرص يمكن أن تتحول إلى مكاسب مباشرة لموسكو إذا تم حسن إدارتها وتعظيم الأرباح منها.
لا يخاصم «بوتين» أحداً، فمكتبه في منتجع سوتشي يقابل فيه السعودي والقطري، والتركي والإماراتي، والإسرائيلي والفلسطيني، والصيني والأمريكي، والياباني والأوروبي، والكوري الشمالي والكوري الجنوبي.
كل أبواب الكرملين مفتوحة ما دام هناك غاز ونفط وتجارة ومبيعات سلاح واستثمارات ومشروعات مشتركة، وتعاون عسكري وتنسيق أمني.
فلاديمير بوتين هو أكثر زعماء العالم الذين قابلوا «نتنياهو وأردوغان وروحاني» ووزراء أمريكيين في عام واحد.
يدرك «بوتين» أنه كلما زاد مفتاح جديد في سلسلة مفاتيحه السياسية زادت قدرة روسيا على استثمار الأوضاع والأزمات وتحويلها إلى «مغانم مادية ملموسة»، ومما يساعد «بوتين» على النجاح هو معرفته بخمس لغات ودراسته القانون والاقتصاد والأمن.
عين «بوتين» على قواعده البحرية في سواحل سوريا، وعلى مصفاة بتروكيماويات في سوريا ولبنان، وامتيازات غاز في لبنان وسوريا وإيران، وتوسيع حجم الميزان التجاري مع الجانب التركي، وزيادة مبيعات السلاح مع مصر والإمارات والسعودية والأردن والجزائر والسودان وليبيا.
يدرك «بوتين» أنه كلما زادت التوترات والصراعات زادت فرص الأرباح لديه، وكلما زادت أخطاء «ترامب» في المنطقة والعالم زادت القوة النسبية لموسكو.
يؤمن «بوتين» بأن البائع الناجح هو الذي يزيد من عدد زبائنه بهدف توسيع حجم أسواقه.
يؤمن «بوتين» بأن التردد الأمريكي في أي تحرك عسكري مباشر في المنطقة يصب لصالح موسكو التي أثبتت أنها خير من استفاد من ضعف وتردد «أوباما»، واستطاعت أن تتخذ قرار التعبئة والتحرك ونقل القوات والعتاد وتخوض حرباً شرسة في سوريا خرجت منها المنتصر الأكبر والقوة المرجحة التي ثبتت نظام الرئيس الأسد ووجهت ضربة قاصمة للإرهاب التكفيري وأرغمت إيران وكل الفصائل المتحالفة معها على إخلاء مواقعها، والآن تقايض على إنهاء «داعش والنصرة» وإنهاء النفوذ الأمني الإيراني داخل سوريا.
الأمر المؤكد أنه كيفما صارت الأمور في الشرق الأوسط، وكيفما ذهبت الأمور إلى مواجهة عسكرية محدودة أو واسعة أو إلى تفاوض التسوية فإن روسيا هي الرابح الأكبر -أو على أقل تقدير- لن تخسر.
نقلاً عن "الوطن المصرية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة