هل يمكن تفعيل "دبلوماسية الفضاء"؟
نظرًا للاتجاهات السياسية الحالية يصعب اعتبار الفضاء مجالًا هادئًا تمامًا بعد الآن، ومن هنا برز مصطلح "دبلوماسية الفضاء".
أعلنت الأمم المتحدة في 29 مارس/ الماضي انتهاء المباحثات التي ترعاها للتوصل لمعاهدة لـ"وقف سباق التسلح في الفضاء" دون التوصل إلى اتفاق، وهو ما صرحت بأنه يشكل ضربة جديدة لدبلوماسية نزع التسلح في العالم.
وقد عقدت المفاوضات على مدار أسبوعين وبحضور 25 دولة، منها الدول الرئيسية الرائدة في مجال الفضاء، إلا أن الدبلوماسيين الذين التقوا في إطار مجموعة من الخبراء الحكوميين لم يتمكنوا من التوصل إلى إجماع، وذلك وفقا لما أعلنه السفير البرازيلي غييرمي دي أغيار باتريوتا الذي ترأس المفاوضات.
وقال باتريوتا في تصريحات صحفية "لم نتمكن من التوصل إلى نقطة التقاء، وإن قادة الدول الرائدة في مجال الفضاء ليسوا منفتحين على اتخاذ خطوات كبيرة صوب التوصل لمعاهدة"، مضيفا "أنّ الهدف ربما كان طموحا للغاية"، وتابع "نعمل على أسس صعبة للغاية بسبب الحساسيات المحيطة بهذه المسائل"...
تكمن نقطة الخلاف الرئيسية بين الجانب الأمريكي من ناحية والجانب الروسي والصيني من ناحية أخرى في دعم الأخيرتين لنهج التوصل إلى معاهدة ترمي لمنع نشر أنواع معينة من الأسلحة في الفضاء، لكن الولايات المتحدة، وحتى قبل وصول الرئيس دونالد ترامب للحكم، رفضت هذا النهج على أساس أنه من الصعب للغاية التأكد من الإمكانيات العسكرية للمعدات التي يتم نشرها في الفضاء.
وعوضا عن ذلك، تفضل واشنطن نهجا يركز على منع سلوك عدواني محدد في الفضاء، وتتشابك نقاط الخلاف التي تحول دون الوصول إلى اتفاق عالمي على معاهدة تضمن عدم تفاقم "سباق التسلح" في الفضاء، وتداعياته على الأمن العالمي، خاصة عقب إعلان الرئيس دونالد ترامب تشكيل قوة عسكرية أمريكية يؤكد من خلالها ما وصفه بـ"الهيمنة الأمريكية" في الفضاء.
وتبعات هذا الإعلان، وما سبقه من تحركات من قبل دول أخرى تسعى نحو تعزيز قوتها من خلال "عسكرة وتسليح الفضاء"، ومن هنا برزت أهمية "دبلوماسية الفضاء" في فض الاشتباك والحد من نقاط الصراع والتقريب بين وجهات النظر من خلال الوصول إلى نقاط التقاء بين الدول الكبرى الفاعلة في مجال الفضاء، وتعزيز التعاون في الاستخدام السلمي للفضاء.
معاهدة الفضاء الخارجي
بدأ نفاذ معاهدة المبادئ المنظمة لأنشطة الدول في ميدان استكشاف واستخدام الفضاء الخارجي، بما في ذلك القمر والأجرام السماوية الأخرى (معاهدة الفضاء الخارجي) في عام 1967، وذلك بعد النظر فيها من جانب لجنة استخدام الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية والجمعية العامة، وتوفر هذه المعاهدة الإطار القانوني الدولي الحاكم للفضاء، ومن أهم مبادئها ما يلي:
• لجميع الدول الحرية في اكتشاف الفضاء، ولا يمكن لأي دولة أن تطالب بملكيته، يجب أن تكون أنشطة الفضاء في صالح جميع الأمم (لذلك لا أحد يملك القمر).
• لا يسمح للأسلحة النووية أو أسلحة الدمار الأخرى أن تدور حول الأرض، حول الأجرام السماوية أو في مواقع أخرى في الفضاء، كما تحظر استخدام الفضاء صراحة لاختبار أسلحة من أي نوع، أو إجراء مناورات عسكرية، أو إنشاء قواعد عسكرية ومنشآت وتحصينات (بعبارة أخرى، السلام هو الاستخدام الوحيد المقبول لمواقع الفضاء الخارجي).
• كل دولة مسؤولة عن أي ضرر تتسبب فيه أجسامها الفضائية (مركبات فضائية، أقمار صناعية…)، كل دولة مسؤولة عن كافة الأنشطة الحكومية وغير الحكومية التي يقوم بها مواطنوها، يجب على هذه الدول أيضاً تجنب التلوث الضار بسبب الأنشطة الفضائية.
وبهدف دعم معاهدة الفضاء الخارجي، تم وضع أربع معاهدات أخرى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لدعم استكشاف الفضاء بشكل سلمي، وهي: اتفاق الإنقاذ 1968، اتفاق المسؤولية 1972 واتفاق التسجيل1957، واتفق القمر 1979، إلا أن المعاهدة وملحقاتها ثبت عدم كفايتها للوقت الراهن لعدة أسباب، منها أن المعاهدة لا تحظر نشر الأسلحة التقليدية في المدار، ومع المعنى الذي أصبح فضفاضا لأسلحة الدمار الشامل في الفضاء.
وبالتالي فقد أصبحت معاهدة حظر الأسلحة التي يمكن استخدامها في الفضاء ليست مجدية ولا يمكن التحقق منها، حيث يمكن استخدام العديد من القدرات العسكرية الأساسية متعددة الأغراض للتداخل مع الأشياء الموجودة في الفضاء أو تعطيلها أو تدميرها، بعض هذه القدرات مثل الصواريخ البالستية البرية والبحرية، وهي موجودة منذ أكثر من نصف قرن، والتي انخفض عددها بشكل كبير، لكن لن يتم القضاء عليهم في أي وقت في المستقبل المنظور، وكذلك السعي الدؤوب لدى عدد من الدول نحو سباق تسلح في الفضاء دفع إلى إعادة النظر في المعاهدة، وهو ما دفع نحو السعي للتوصل إلى إعادة صياغة قوانين الفضاء، ومحاولة التوصل إلى اتفاقات تحول دون تفاقم الوضع، ومن هنا تصاعد مفهوم "دبلوماسية الفضاء".
لماذا هناك حاجة إلى "دبلوماسية الفضاء"
يوم الأربعاء الموافق 26 سبتمبر/أيلول 2018 ذكرت بوابة "Space.com" الإلكترونية نبأ إطلاق قمر اصطناعي يمارس "دبلوماسية الفضاء"، وذلك نقلا عن سائحة الفضاء الباكستانية المستقبلية ومديرة "المؤسسة الفضائية"، نميرة سالم، التي ألقت خطابا في مؤتمر "الفضاء-2030"، الذي عقد على هامش الدورة الـ73 للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تذكر نميرة موعد تحقيق المشروع، إلا أنها قالت إن تلك المبادرة ستستعرض موقفا جديدا من إحلال السلام العالمي، وهو "ممارسة الدبلوماسية الفضائية".
لم يكن هذا التحرك إلا جزء من حزمة تحركات دولية متعددة نحو تعزيز "دبلوماسية الفضاء" التي تنامى الاهتمام بها بصورة ملحوظة في الآونة، وخاصة عقب إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "إنشاء قوة عسكرية أمريكية في الفضاء"، وهو ما تبعه ردود فعل تصعيديه من القوى الأخرى الفاعلة في الفضاء، والتي أعلنت بدورها عزمها اتخاذ خطوات مماثلة، بل خلال انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة أعلنت الهند تدمير قمر صناعي على مدار منخفض في اختبار صاروخي، قالت بعده إنها انضمت بذلك إلى القوى العظمى في مجال الفضاء.
وفي سياق ما حدث من تغيرات في مجال الفضاء خلال العقد الماضي يمكن إجمالها فيما يلي:
• العدد المتزايد والمتنوع من الجهات الفاعلة - هناك أكثر من ستين فاعلا في الفضاء هذه الأيام، بما في ذلك الجهات التجارية.
• استخدام الفضاء في سياق الأمن القومي، حيث تقوم الدول بدمج جانب الفضاء الخارجي في العمليات العسكرية التقليدية.
• هناك تغيير في ميزان القوى بين دول في آسيا وخارجها كان له تأثير على كيفية إجراء دبلوماسية الفضاء؛ كيف يتم تحديد الأولويات في مجال الفضاء، وكيف يتم تحديد التحديات ومعالجتها.
قد تصاعد الحديث مؤخرا عن مصطلحات تعد حديثة نسبيا في المجال السياسي والأمني، مثل "حروب الفضاء" وعسكرة الفضاء، وتسليح الفضاء، وغيرها كما برز مصطلح دبلوماسية الفضاء، ليعبر عن السعي للوصول إلى اتفاقات وتوافقات بين الأطراف المعنية في مجال قوة الفضاء، وذلك من خلال العديد من الجهود التي تحول دون تصاعد سباقات التسلح في الفضاء، وتحول أيضا دون تفاقم المبادرات الساعية لتسليح الفضاء، والوصول إلى تفاهمات وأطر وقواعد حاكمة لممارسات الدول في الفضاء، وتعني دبلوماسية الفضاء:
• فن التفاوض للتعايش بسلام في الفضاء الخارجي من أجل مستقبل البشرية.
• يقوم على فكرة صياغة وتنفيذ مبادرات عملية تهدف إلى التقريب بين مصالح الدول في الفضاء وتعزيز التعاون بينها وبين بعضها البعض.
ونظرًا للاتجاهات السياسة الحالية التي سبق ذكرها يصعب اعتبار الفضاء مجالًا هادئًا تمامًا بعد الآن، وفي ظل السعي نحو وجوب تجنب اتجاه تسليح الفضاء الخارجي، والاستخدام المزدوج للفضاء الخارجي والتكنولوجيا ذات الصلة الذي يجعل من الصعب التمييز بين جسم سلمي وسلاح، وما يمكن أن تتعرض له الأقمار الصناعية والأخطار التي تهدد رحلات الفضاء المأهولة وهو ما يضع جميع الدول المرتادة للفضاء في نفس المعضلة، تبدو أهمية تركيز الاهتمام بدبلوماسية الفضاء.
على مدى عقود، كانت دبلوماسية الفضاء أداة لوضع أحكام مهمة عندما يتعلق الأمر بالحد من التطورات المهددة في الفضاء وسباق التسلح الذي انطلق خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها من ناحية أخرى كانت أساسا لأوجه عدة بين العديد من الدول، وقد ظهرت بوادر التعاون الدولي في مجال الفضاء في عام 1958 حين قررت الأمم المتحدة تأسيس "لجنة استخدامات الفضاء الخارجي في الأغراض السلمية"، وعقدت مؤتمرات تخص هذا المجال في أعوام 1968 و1982 و1999، كما تعقد بانتظام 3 اجتماعات سنويا، منها اجتماع اللجنة العلمية، وقد عقدت روسيا وأمريكا أيضا اتفاقية تعاون في استكشاف الفضاء وضعت على أساسها البرنامج المشترك "مير – شتل"، ويقضي بضم رواد الفضاء الروس إلى أطقم المكوكات الأمريكية وضم رواد الفضاء الأمريكيين إلى أطقم المركبات الفضائية الروسية "سويوز" والمحطة الفضائية "مير".
وتوالت بعدها سبل التعاون بين الدول في الفضاء، وقد كان لدولة الإمارات العربية المتحدة السبق في طرحها لمقترح يتعلق بالتعاون بين الدول العربية في مجال أبحاث الفضاء، وهو ما رحب به المجلس الاقتصادي والاجتماعي لجامعة الدول العربية خلال اجتماعه في تونس في إطار التحضير للقمة العربية المقبلة، ومقترح الإمارات بإنشاء مشروع «المجموعة العربية للتعاون الفضائي» على هامش الدورة الثانية لمؤتمر الفضاء العالمي في أبوظبي خلال الفترة 19-21 مارس/ آذار الماضي، وهو ما تصاحب مع تثمين الدور الإماراتي في تطوير التعاون العربي في مجال علوم الفضاء واستخداماته لصالح تقدم الدول العربية.