دونالد ترامب.. «العائد» على جناح رصاصة «رئيسا» لأمريكا (بروفايل)
بأعجوبة سياسية اختصر، لمرتين، المسافة الشاقة التي تفصله عن البيت الأبيض وقفز فوق كل تعرجاتها مخلفا في كل مرة هالة من الجدل والضجيج.
دونالد ترامب، الرجل الثري الذي كان رصيده الوحيد يتكثف، قبل نحو عقد، في ملياراته المدونة بأحرف من ذهب بسجلات المصارف أو قيمة عقاراته واستثماراته، يعود اليوم إلى مقر الرئاسة الأمريكية.
واليوم الأربعاء، قالت شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، إن المرشح الجمهوري دونالد ترامب فاز بـ277 صوتا في "المجمع الانتخابي"، متفوقا على منافسته المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس التي حصلت على 226 صوتا.
إلى ذلك المبنى- البيت الأبيض- في شارع بنسلفانيا بالعاصمة واشنطن، سيعود الجمهوري ليضيف ولاية ثانية لرصيد سياسي كان حتى وقت قصير يقتصر على ولايته الأولى، مسجلا بذلك ضربة قاصمة ضد منافسته الشرسة كامالا هاريس.
يعود ترامب من الرماد بعد مسيرة سياسية بدت وكأنها في حكم الميت بعد نكسات عديدة بولايته الأولى وانتقادات طوقت إدارته لجائحة كورونا، ثم جاء اقتحام مبنى الكابيتول ليقضي على ما تبقى منها.
لكن رصاصة حاولت اغتياله «أنعشت» مسيرته بشكل خرافي، وقد تكون هي «الصاعق» الذي أعاد إحياء الرجل في عيون أنصاره وحتى البعض من مناوئيه.
فمن هو دونالد ترامب، الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية؟
في العقود التي سبقت ترشحه غير المتوقع للبيت الأبيض في عام 2015-2016، كان دونالد ترامب الملياردير الأكثر بريقاً في أمريكا.
وبينما ساعده اسمه المألوف وأسلوب حملته المثير للجدل في هزيمة السياسيين المخضرمين، فإن فترة ولايته المثيرة بالجدل أدت للإطاحة به من منصبه بعد فترة رئاسية واحدة.
والآن، بعد أن بلغ من العمر 78 عاما تحدى مرة أخرى كل الصعاب، في إطار عودة سياسية وصفت بـ«المذهلة» انتهت باستعادته مقعد الرئيس خلف المكتب البيضاوي.
ترامب هو الطفل الرابع لقطب العقارات في نيويورك فريد ترامب.
ورغم ثراء العائلة، عمل في أدنى الوظائف داخل شركة والده، وأرسل إلى أكاديمية عسكرية في سن الثالثة عشرة عندما بدأ يتصرف بشكل «سيئ» في المدرسة، بحسب «بي بي سي».
وبعد حصوله على شهادة من كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا أصبح المرشح المفضل لخلافة والده، عندما اختار شقيقه الأكبر فريد أن يصبح طيارا.
وتوفي فريد ترامب عن عمر يناهز 43 عاما في عام 1999، بسبب إدمان الكحول، وقال ترامب في ذلك الوقت «كان والدي مصدر إلهامي».
ويقول ترامب إنه دخل مجال العقارات بقرض «صغير» قدره مليون دولار من والده قبل الانضمام إلى الشركة.
وساعد ترامب في إدارة محفظة والده الواسعة من مشاريع الإسكان السكني في أحياء مدينة نيويورك، وتولى السيطرة على الشركة -التي أطلق عليها اسم منظمة ترامب- في عام 1971.
العلامة التجارية
في عهد ترامب تحولت أعمال العائلة من الوحدات السكنية في بروكلين وكوينز إلى مشاريع فاخرة في مانهاتن.
وأصبح شارع فيفث أفينيو الشهير موطنا لبرج ترامب، الذي يعتبر أشهر ممتلكات قطب الأعمال ومسكنه لسنوات عديدة، كما تم ترميم فندق كومودور المتهالك وتحويله إلى فندق جراند حياة.
وأنشأ دونالد ترامب عقارات أخرى تحمل العلامة التجارية له، بالإضافة إلى شقق سكنية، وملاعب غولف وفنادق - من أتلانتيك سيتي وشيكاغو ولاس فيغاس إلى الهند وتركيا والفلبين.
عالم الترفيه لم يكن بعيدا عن قطب العقارات، فاشتهر أولا كمالك لمسابقات ملكة جمال الكون، وملكة جمال الولايات المتحدة، وملكة جمال مراهقات الولايات المتحدة، ثم كمقدم لبرنامج تلفزيون الواقع The Apprentice على قناة «إن بي سي».
وعلى مدى 14 موسما، تنافس المتسابقون في برنامج «المتدرب» على عقد إدارة في إمبراطوريته التجارية، جعلت عبارة "أنت مطرود!" الشهيرة من "دونالد" اسما مألوفا.
وكتب ترامب عدة كتب، وظهر في أفلام وبرامج مصارعة المحترفين، وباع كل شيء من المشروبات إلى ربطات العنق، وتقدر مجلة فوربس صافي ثروته بنحو 7.5 مليار دولار.
لكن الملياردير أعلن إفلاس شركاته في ست مناسبات منفصلة، كما انهارت العديد من مشاريعه، بما في ذلك ترامب ستيكس وترامب يونيفرسيتي.
كما قام بحماية معلوماته الضريبية من التدقيق، وكشفت تقارير نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2020 عن سنوات من التهرب الضريبي على الدخل والخسائر المالية المزمنة.
العائلة
حظيت حياة ترامب الشخصية بتغطية إعلامية واسعة النطاق، خاصة زيجاته الثلاث.
كانت زوجته الأولى، وربما الأكثر شهرة، إيفانا زيلنيكوفا، رياضية وعارضة أزياء تشيكية، وأنجب الزوجان ثلاثة أطفال، دونالد جونيور وإيفانكا وإيريك، قبل طلاقهما في عام 1990.
وقد تصدرت معركتهما القضائية المريرة الصفحات الأولى لأعمدة الشائعات، كما ظهرت مزاعم السيدة ترامب الراحلة بالعنف الأسري -التي قللت من أهميتها لاحقا- في فيلم جديد عن ترامب.
وتزوج الممثلة مارلا مابلز في عام 1993، بعد شهرين من ولادة طفلتهما الوحيدة تيفاني، وانفصلا في عام 1999.
وزوجة ترامب الحالية هي عارضة الأزياء السلوفينية السابقة ميلانيا كنوس، تزوجا في عام 2005 وأنجبا ابنا اسمه بارون ويليام ترامب، الذي بلغ مؤخرا 18 عاما.
دونالد المرشح
في مقابلة أجريت معه عام 1980، وصف ترامب البالغ من العمر 34 عاماً السياسة بأنها «حياة بائسة للغاية»، قائلا إن «الأشخاص الأكثر كفاءة» يختارون بدلاً من ذلك عالم الأعمال.
وبحلول عام 1987، بدأ في الترويج لترشحه للرئاسة، وقد فكر لفترة وجيزة في دخول سباق عام 2000 مع حزب الإصلاح، ثم فكر مرة أخرى في عام 2012 كجمهوري.
كان ترامب من بين أبرز المؤيدين لنظرية المؤامرة التي تشكك في ميلاد باراك أوباما في الولايات المتحدة، ولم يعترف ترامب بأنها كذبة حتى عام 2016، ولم يعتذر عنها قط.
ولم يعلن ترامب رسميا عن ترشحه للبيت الأبيض إلا في يونيو/حزيران 2015، حيث أعلن عن موت الحلم الأمريكي لكنه وعد بـ«إعادته أكبر وأفضل».
وفي خطابه، تفاخر ترامب بثروته ونجاحه التجاري، واتهم المكسيك بإرسال المخدرات والجريمة إلى الولايات المتحدة، ووعد بجعل البلاد تدفع ثمن بناء جدار حدودي.
وقد اجتذبت العروض المهيمنة على مسرح المناظرات ومنصة السياسة المليئة بالجدل المعجبين المتحمسين والنقاد الشرسين على قدم المساواة، فضلاً عن سيل من اهتمام وسائل الإعلام.
وتحت شعار حملته «جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى» نجح ترامب بسهولة في تجاوز منافسيه في الحزب الجمهوري ليواجه الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وقد شابت حملته الانتخابية الكثير من الجدل، بما في ذلك تسريب شريط صوتي له وهو يتفاخر بالاعتداء الجنسي، كما كان متخلفا في استطلاعات الرأي طول الانتخابات العامة.
لكن ترامب كان له الضحكة الأخيرة على المعلقين وخبراء استطلاعات الرأي بفوزه المذهل على سياسي مخضرم، وقد أدى اليمين الدستورية باعتباره الرئيس الخامس والأربعين للبلاد في العشرين من يناير/كانون الثاني 2017.
محاولات اغتيال
في سبتمبر/ أيلول الماضي، كان ترامب يلعب الغولف بناديه في بالم بيتش بولاية فلوريدا أثناء تبادل شخصين إطلاق النار خارج النادي، ولم يتعرض حينها للخطر وقد جرى نقله إلى مكان آمن بشكل فوري.
وكانت تلك المحاولة الثانية لاغتياله في غضون شهرين، وهو ما أثار كثيرا من التساؤلات والجدل، وأعاده إلى الحياة السياسية من بابها الكبير، كما يقول مراقبون.
وسرعان ما أدرك ترامب أن تلك الرصاصة التي كادت أن تخترق أذنه اليمنى، هي نفسها من حوله في عيونن الكثيرين إلى بطل، فلعب على هذا الوتر ليصور نفسه على أنه الرجل الذي تحتاجه أمريكا لتخليصها من أوجاعها وأن الجميع يحاربه خوفا منه.
ترامب الرئيس
منذ الساعات الأولى من توليه منصبه بولايته الأولى، جلب دراما مثيرة إلى وظيفته، فكان غالبا ما يصدر إعلانات رسمية على «إكس» ويصطدم علنا مع الزعماء الأجانب.
ولقد انسحب ترامب من اتفاقيات رئيسية تتعلق بالمناخ والتجارة، وحظر السفر من سبع دول ذات أغلبية مسلمة، وأصدر قيودا صارمة أخرى على الهجرة، وشن حربا تجارية مع الصين، ونفذ تخفيضات ضريبية قياسية، وأعاد تشكيل العلاقات في الشرق الأوسط.
وعلى مدى ما يقرب من عامين حقق محقق خاص في مزاعم تواطؤ بين حملة ترامب الانتخابية في عام 2016 وروسيا، وواجه أربعة وثلاثون شخصا اتهامات جنائية في مسائل مثل القرصنة الحاسوبية والجرائم المالية، لكن ليس ترامب، ولم يثبت التحقيق وجود تواطؤ جنائي.
وبعد فترة وجيزة أصبح ترامب ثالث رئيس أمريكي في التاريخ يخضع للعزل، بسبب اتهامات بأنه مارس ضغوطا على حكومة أجنبية لكشف معلومات مسيئة لمنافسه الديمقراطي جو بايدن، وقد عزله مجلس النواب الذي يقوده الديمقراطيون، لكن مجلس الشيوخ الذي يقوده الجمهوريون برأه.
وكانت جائحة فيروس كورونا هي السائدة في عام انتخابه 2020، وواجه ترامب انتقادات شديدة بسبب تعامله مع الأزمة، حيث أصبحت الولايات المتحدة الأكثر تضررا من حيث عدد الوفيات والإصابات في العالم، وبسبب تعليقاته المثيرة للجدل، مثل اقتراح إجراء بحث حول ما إذا كان من الممكن علاج الفيروس عن طريق حقن الجسم بمطهر.
واضطر إلى أخذ استراحة من حملته الانتخابية في أكتوبر/تشرين الأول بعد تشخيص إصابته بفيروس كورونا، وعلى الرغم من أنه حصل في النهاية على 74 مليون صوت -أكثر من أي رئيس أمريكي آخر- فإنه خسر السباق أمام بايدن بفارق أكثر من سبعة ملايين صوت.
ومن نوفمبر/تشرين الثاني 2020 إلى يناير/كانون الثاني 2021، عزز مزاعم سرقة الأصوات والاحتيال الانتخابي على نطاق واسع، وهي مزاعم تم إسقاطها في أكثر من 60 قضية أمام المحكمة.
ورفض ترامب قبول النتائج، وحشد أنصاره في واشنطن في 6 يناير/كانون الثاني، وحثهم على التجمع في مبنى الكابيتول، حيث كان من المقرر أن يتم التصديق رسميا على فوز بايدن من قبل الكونغرس.
وتحولت تلك المظاهرة إلى أعمال شغب عرضت المشرعين ونائب الرئيس للخطر، وأدت إلى محاكمة تاريخية ثانية لترامب، وبرأ مجلس الشيوخ ترامب مرة أخرى، وإن كان بأغلبية ضئيلة، وأفعاله في ذلك اليوم أصبحت الآن محور قضيتين جنائيتين.
العودة مجددا
بدت مسيرة ترامب السياسية وكأنها في حكم الميت بعد اقتحام مبنى الكابيتول، فقد تعهد المانحون والمؤيدون بعدم دعمه مرة أخرى، بل حتى أقرب حلفائه تبرأوا منه علناً.
ولقد تخطى حفل تنصيب خليفته وانتقل مع عائلته إلى فلوريدا، لكن بفضل جيش مخلص من المعجبين الذين ما زالوا يدعمونه احتفظ بنفوذه الهائل على الحزب الجمهوري.
ولعل الإرث الأكثر ديمومة لرئاسته جاء بعد انتهائها عندما ساعد القضاة الثلاثة اليمينيين الذين رشحهم للمحكمة العليا خلال فترة وجوده في البيت الأبيض، في إنهاء ما يقرب من خمسين عاما من حقوق الإجهاض الوطنية.
ورغم إلقاء اللوم عليه بسبب النتائج الضعيفة للجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، أعلن ترامب ترشحه مرة أخرى للرئاسة وسرعان ما أصبح المرشح الأوفر حظا بين الجمهوريين.
وتحداه أكثر من اثني عشر منافسا -بمن في ذلك نائبه السابق- لكنهم فشلوا، إذ تجنب ترامب مرحلة المناظرة ووجه نيرانه نحو بايدن.
ولقد اتسمت فترة ولاية ترامب-الذي كان غير محبوب تاريخيا- بالانتعاش الاقتصادي بعد الوباء ومكاسب البنية التحتية، لكن أيضا بالتضخم المرتفع، وأزمة على الحدود وفوضى في السياسة الخارجية.
وفي يوليو/تموز الماضي توج الجمهوريون ترامب رسميًا كمرشح رئاسي للمرة الثالثة على التوالي، مما مهد الطريق لمباراة إعادة في انتخابات عام 2020.
إلا أن انسحاب بايدن من السباق الرئاسي تسبب في تعديل على جولة الإعادة لتكون بينه وبين نائبة الرئيس كامالا هاريس.
ورغم أن هاريس دخلت المعركة بحظوظ وافرة وتركيز واضح على عامل السن، إلا أن الملياردير استطاع أن يحسم السباق المحموم لصالحه ويقتطع تذكرة عودة ثمينة للبيت الأبيض.