قمة العشرين.. وتوجهات الصراع التجاري الدولي
هل يمر النظام الاقتصادي العالمي بمرحلة انتقالية؟ وهل نشهد في المستقبل القريب تغيراً جوهرياً في ملامح خريطة القوى الاقتصادية الكبرى؟
المواقف الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي يُطلق عليها "حمائية ترامب"، اعتماداً على مبدأ "أمريكا أولا"، والخلافات مع أوروبا بشأن التبادل التجاري بينهما، إضافة إلى إعلانه الانسحاب من اتفاقية التجارة حول المحيط الهادئ.. كل ذلك، يضع مستقبل النظام الاقتصادي العالمي محل تساؤلات متعددة، خاصة إذا تأملنا التصاعد المستمر للقوى الآسيوية على المستوى الاقتصادي الدولي، وتأملنا في الوقت نفسه الحرب التجارية بين الولايات المتحدة وكل من الصين وأوروبا، والهند أيضاً.
ضمن أهم هذه التساؤلات: هل يمر النظام الاقتصادي العالمي الراهن بمرحلة انتقالية؟ وإذا كان الأمر هكذا هل نشهد في المستقبل القريب تغيراً جوهرياً في مضمون وملامح خريطة القوى الاقتصادية الكبرى بشكل يختلف عن تلك التي تعوّد عليها العالم طيلة عقود؟ وهل يؤثر الاختلاف الواضح بين القوى الكبرى حول المصالح والتوجهات الاقتصادية على نتائج قمة مجموعة العشرين التي تنعقد في 28 و29 يونيو/حزيران الجاري في مدينة أوساكا اليابانية.
جدول أعمال القمة
8 من الملفات تتسم بالقضايا الاقتصادية المهمة، تتصدر جدول أعمال قمة العشرين هذا العام؛ بل وتنصب ضمن الموضوعات الأكثر حساسية من حيث إن معظم دول العالم تركز عليها. وربما تكون هذه القمة هي الأهم، منذ اجتماع لندن عام 2009، من منظور التصادمات التجارية التي ازدادت حدتها مؤخراً.
في مقدمة هذه الملفات، حسب تقرير نُشر على موقع "قمة مجموعة العشرين"، يأتي ملف مشكلات الاقتصاد العالمي، إضافة إلى ملف التجارة والاستثمار، فضلاً عن الملف الخاص بسوق العمالة.. وغيرها من ملفات تخص الابتكارات وعلاقتها بالتقنية، والبيئة والطاقة، والتنمية المستدامة؛ وكذلك قطاع الصحة وعلاقته بالاقتصاد العالمي.
وكما يؤكد التقرير، فإن مجموعة العشرين التي تم تأسيسها في الأصل استجابة للأزمة المالية العالمية، أمامها مهمة إرساء أسس اقتصادية لتحقيق نمو مستدام وشامل للاقتصاد العالمي. ومن هنا، تأتي أهمية الملف الخاص بالتجارة الدولية والاستثمار، كمحركات رئيسية للنمو والإنتاجية والابتكار؛ إضافة إلى ملف سوق العمالة، وهو الملف الذي يهم الكثير من دول العالم.
والواقع، أن أهمية التعامل مع هذه الملفات وغيرها في إطار القمة تعود إلى أن مجموعة العشرين تُمثل نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأكثر من 80% من حجم التجارة العالمية، ونحو 66% من تعداد سكان العالم. ومن ثم يصبح التساؤل المُلقى على عاتق القمة يختص بمدى قدرتها على حل مشكلات النظام الاقتصادي العالمي عموماً، ومنظومة التجارة الدولية بوجه خاص.
إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع هذه المشكلات والعمل لأجل وضع حلول لها لا يمكن فصله عن إصلاح منظمة التجارة العالمية، خاصة أن ربع قرن من الزمان قد مرَّ منذ إنشاء المنظمة، ورغم ذلك لم تستطع مواكبة التغير المذهل في الاقتصاد العالمي، بل، ولم تنجح في حل مشكلات الصراع التجاري الدولي الذي يشهد العالم مؤشراته حالياً.
الصراع التجاري الدولي
في تصريح مثير للاهتمام، قال مدير عام منظمة التجارة العالمية روبرتو أزيفيدو 20 يونيو/حزيران الجاري إن "أعضاء المنظمة يأملون في أن تساعد قمة مجموعة العشرين في تخفيف حدة التوتر التجاري". وفيما يبدو، فقد استخدم أزيفيدو تعبيراً أقل حدة مما هو جارٍ اليوم بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الاقتصادية الكبرى، الصين وأوروبا والهند. إذ إن الحاصل اليوم هو صراع تجاري دولي، يدفع إلى نوع من الاستقطابات على الساحة الدولية، ويأتي في مقدمتها الاستقطاب الأمريكي الأوروبي.
بالطبع، يبدو هذا الاستقطاب الأخير كنتيجة لتوجهات الإدارة الأمريكية نحو الحمائية، تبعاً لـ"مبدأ ترامب"، والاختلافات الأمريكية مع أوروبا عموما، بخصوص النزاع التجاري بينهما حول صادرات الصلب الأوروبية، والاختلافات الأمريكية الألمانية، في الوقت نفسه، فيما يتعلق بالصادرات الألمانية من السيارات.. وغيرها، وهو الخلاف الذي يضع ألمانيا في موقع قيادة المواجهة مع الولايات المتحدة وإدارتها فيما يخص الدفاع عن مبادئ حرية التجارة العالمية.
لكن أيضاً هناك عوامل تدفع الإدارة الأمريكية إلى تبني مثل تلك التوجهات، فهذه القوة العظمى التي يُعاني اقتصادها ترغب في أن تضع حدا لإغراق أسواقها بالبضائع الصينية والأوروبية. فمن جهة، تعاني واشنطن من إغراق الاتحاد الأوروبي لأسواقها بصادرات الصلب الرخيصة، وكذا السيارات الألمانية المصنعة في أمريكا الجنوبية. ومن جهة أخرى، تعاني من الصين التي تعتمد على رخص أياديها العاملة وسعر صرف عملتها المنخفض.
في هذا الإطار، أعلنت الولايات المتحدة في 31 مايو/أيار 2018 عن فرض رسوم على الصلب والألومنيوم المستورد إليها من أوروبا، وكندا والمكسيك، بنسبة 25% ، و10%، وهو ما دفع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى التصريح حينذاك بأن "الاتحاد الأوروبي يعتبر الرسوم الأمريكية متناقضة مع قوانين منظمة التجارة العالمية"، ومؤكداً أن "قرار الولايات المتحدة لا يترك أمام الاتحاد الأوروبي خياراً آخر سوى فرض تدابير ردية".
كما أعلنت الولايات المتحدة عن فرض تعريفات جمركية محددة خصيصاً للصين في يوليو/تموز 2018 وصلت إلى 25% على واردات صينية شتى، تُقدر بمئات المليارات من الدولارات، وهو ما دفع الصين إلى الرد على هذا الإجراء بالمثل في اليوم نفسه.
ولم تتوقف إدارة الرئيس ترامب عند حدود أوروبا أو الصين، لكنها وصلت إلى الهند، حيث قرر الرئيس الأمريكي "شطب الهند من قائمة الدول التي تحظى بأفضلية تجارية"، وبناء أيضاً على رفض واشنطن إعفاء نيودلهي من الرسوم الجمركية المرتفعة على الصلب والألومنيوم قررت الحكومة الهندية زيادة الرسوم الجمركية على 29 منتجاً أمريكياً، بدأ تنفيذها منتصف الشهر الجاري.
أهمية الشرق الأوسط
عطفا على ما سبق يمكن القول بأن الصراعات التجارية التي تتضح مؤشراتها راهنًا، ليست وليدة اللحظة، أو أن ترامب يحاول إشعالها اعتباطًا؛ إذ يكفي أن نلاحظ القواعد الأساسية التي تنبني عليها سياسة الإدارة الأمريكية الحالية، فهناك الإصرار على تعزيز القوة الاقتصادية الأمريكية ومواجهة المنافسين لها، وهناك اعتبار أن الأوروبيين يعيشون على منافع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي دفع ترامب إلى تحدي أوروبا أن تتبنى التبادل التجاري الحر. ثم هناك، أيضًا، اتهام الصين باستغلال أنظمة الاستثمار الأمريكية المرنة لنقل المعرفة و"نقل" التقنية المتطورة، ما يُهدد مكانة الولايات المتحدة الأمريكية.
بناءً على هذه القواعد، بدأت مؤشرات الصراعات التجارية تتضح منذ قمة العشرين في عام 2017، وهي، نفسها، المؤشرات التي تنعقد في إطارها قمة العشرين هذا العام.
وينقلنا هذا إلى مدى تأثير هذه الصراعات التجارية على المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً، إذ في حال استمرار هذا الصراع التجاري، فإنه سوف يتسبب في تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وسوف يؤدي بالضرورة إلى تقليص نمو كثير من اقتصاديات الشرق الأوسط. من أبرز الأسباب وراء ذلك أن أسعار النفط والغاز تميل في الغالب إلى الارتباط المباشر بالإمكانات الاقتصادية العالمية، وعندما تنكمش هذه الإمكانيات تميل الأسعار نحو الانخفاض هي الأخرى.
إلا أنه، من جانب آخر ربما تميل القوى الاقتصادية الكبرى، خصوصاً أمريكا والصين، في التطلع نحو مناطق أخرى بخلاف بعضهما البعض، بحثاً عن أسواق جديدة ومدخلات اقتصادية وفرص استثمارية. وإلى حد معين، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إعادة توجيه بعض النشاطات الاقتصادية لهذه القوى نحو عدد من المواقع المختارة في الشرق الأوسط.
وكمثال، يمكن أن تزيد الصين بدرجة كبيرة من نشاطات البناء وعدد من الأنشطة الاقتصادية الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالجيل الخامس من التقنية المتطورة، وهو نفسه ما يمكن أن تتحرك في اتجاهه شركات أمريكية وأوروبية، بما يعني أن ازدياد الاهتمام الدولي بالفرص التجارية في الشرق الأوسط ربما يقلص الأضرار الاقتصادية الأوسع الناجمة عن توجهات الصراعات التجارية التي يشهدها العالم راهناً.