يلاحظ أن السلوك الأمريكي بات يدور في دائرة محددة معتمدا على تفعيل برنامج العقوبات، ودراسة الأفكار الفرنسية للتفاوض مع إيران
سيمر الوقت سريعا لتكتشف الإدارة الأمريكية أنها في حاجة إلى مزيد من الوقت لمراجعة مجمل سياساتها تجاه إيران، وليس فقط تجاه تغيير سلوك النظام الإيراني ومحاولة إعادة تعويمه مرة أخرى، انطلاقا من واقع تفاوضي جديد، خاصة أن الجانب الإيراني دخل منعطفا جديدا من المفاوضات مع الجانب الأوروبي والفرنسي تحديدا، وهو من سيقود الوساطة للوصول إلى نقطة توازن حقيقي يمكن للولايات المتحدة وإيران البدء منها، وهو ما ستعمل عليه المجموعة الأوروبية في ظل اتجاه الجانب الألماني للعمل مع الجانب الفرنسي، ودخول روسيا على الخط بعد لقاء وزيري الخارجية في البلدين ظريف/لافروف، وإعلان روسيا أنها ستدعم التحرك الفرنسي، مع تحميل واشنطن مسؤولية تراجع إيران عن جزء من التزاماتها وفقا للاتفاق النووي.
الواقع أن الوضع الداخلي في إيران متأزم بصورة كبيرة والعقوبات الاقتصادية أثرت بالفعل على الداخل الإيراني، وهو أمر يحتاج إلى تطوير الموقف الأمريكي والعمل على تطويق المواقف الإيرانية، وتهميش مساحة المناورة الراهنة، واستثمار ما يجري داخليا بدفع إيران للعودة للتفاوض وفقا للشروط الدولية، وليس الاستمرار في سيناريو مفتوح
تكرر إيران خطابها السياسي والإعلامي من جديد بدعوة الإدارة الأمريكية للذهاب لمفاوضات تتعلق بالاتفاق النووي حال رفع إدارة ترامب كل العقوبات، ولا حديث سوى عن أفكار عامة أطلقها وزير الخارجية جواد ظريف، وكأننا نبدأ من الصفر، خاصة أن عين إيران على مسار تفاوضي جديد من خلال إعادة تسويق فكرة المقايضة والائتمان للنفط الإيراني مقابل الحصول على 15 مليار دولار لمواجهة منظومة العقوبات كخطوة أولى -وهو نظام سبق ونوقش على مستويات عديدة وثبت فشله- إلا أن عودة إيران إليه تشير إلى رغبة جديدة في الالتفاف على برنامج العقوبات الأمريكية الذي بات مكلفا للسياسة الإيرانية.
ورغم ذلك ما تزال إدارة ترامب تحاول إحداث اختراق في المواقف الإيرانية والبدء من واقع جديد، وفي المقابل يلاحظ أن السلوك الأمريكي بات يدور في دائرة محددة معتمدا على تفعيل برنامج العقوبات، ودراسة الأفكار الفرنسية للتفاوض، وهو الأمر الذي قد يأخذ عدة أشهر، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية ستجد نفسها بعد عدة أسابيع أنها لم تنجز شيئا واقعيا، وسيكون الإيرانيون ربحوا الوقت، واستثمروا في الارتباك الأمريكي والاستمرار في التجاذب القائم في الإدارة حول التعامل مع الحالة الإيرانية في ظل كل الخيارات الراهنة والمحتملة، خاصة أن الجانب الإيراني نجح في تسويق سياسته بالتأكيد على الانتصار في حرب الناقلات في مواجهة واشنطن، مع الاستمرار في توظيف وكلائه في الإقليم مثلما يجري في اليمن وغزة والعراق ولبنان.
والرسالة أن إيران قادرة على الاستمرار في خطها السياسي والاستراتيجي بصرف النظر عن الإجراءات الأمريكية لتأمين الملاحة البحرية في الخليج العربي والتنسيق البحري الراهن بين الولايات المتحدة وبريطانيا؛ إذ إن الإجراءات الأمريكية ستحتاج إلى آليات وتنسيق ومتابعة، وليس مجرد إجراءات مرتبطة بالنهج الإيراني في التعامل، وهو نهج يتسم بالمراوغة والتكتيك والاتجاه إلى فرعيات وأنماط متعددة، بهدف تشتيت الأطراف المختلفة، وهو ما جرى مع الجانب الأمريكي الذي خرج من واقعة الناقلة الإيرانية خاسرا مكتفيا بإصدار حكم فيدرالي بملاحقة الناقلة.
إن إيران ستربح إذا ظل الموقف الأمريكي معتمدا على الاستمرار في مناشدتها الدخول في التفاوض والقبول بالوساطة الفرنسية الأوروبية، وهو أمر قد يطول في ظل مكاسب سياسية يجنيها النظام السياسي الراهن الذي يردد داخليا أنه نجح في تطويع المواقف الدولية، وأن الإدارة الأمريكية ستقبل في نهاية المطاف بالتفاوض وفقا لشروط إيرانية، وأن التفاوض المقترح لن يفتح ملفات مهمة على رأسها البرنامج الصاروخي أو فرض قيود جديدة على تقييد الحركة الإيرانية في التعامل مع بنود الاتفاق السابق.
والمثير أن يحدث ذلك التصعيد الإيراني في مواجهة الإدارة الأمريكية في ظل صراعات حقيقية تدب بأوصال النظام الإيراني بأكمله، ولا تتوقف على الحرس الثوري ولا المرجعية المركزية ممثلة في المرشد، بل أيضا تطول بعض الشخصيات السياسية، منها الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، ولهذا فإن الإدارة الأمريكية أمامها فرصة حقيقية للدخول على الخط وإعادة تدوير حساباتها وسياساتها تجاه إيران انطلاقا من إدراك عام بأنها ستعتمد على خيار المماطلة والعند السياسي، بل إطالة أمد التعامل مع الخارج والاستمرار في تبني سياسات داعية للإفلات من منظومة العقوبات الاقتصادية، والدعوة لطرح البدائل المقابلة معتمدة على مساحات الاختلاف بين أوروبا والولايات المتحدة من جانب، وداخل الإدارة الأمريكية نفسها في التعامل مع الموقف الإيراني، وفي ظل رهانات مقابلة بأن الإدارة الأمريكية لن تغامر بأي إجراءات مفاجئة أو تبني إجراءات تصعيدية، مع قرب الدخول في المعركة الانتخابية الرئاسية المقبلة.
والواقع أن الوضع الداخلي في إيران متأزم بصورة كبيرة والعقوبات الاقتصادية أثرت بالفعل على الداخل الإيراني، وهو أمر يحتاج إلى تطوير الموقف الأمريكي والعمل على تطويق المواقف الإيرانية، وتهميش مساحة المناورة الراهنة، واستثمار ما يجري داخليا بدفع إيران للعودة للتفاوض وفقا للشروط الدولية، وليس الاستمرار في سيناريو مفتوح على مصراعيه تحقق فيه إيران مخططها التفاوضي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة