بايدن ولعبة "بازل" خطيرة.. أخطاء استراتيجية حول الخصم والحليف
السعودية تشترك بقرار جماعي لتخفيض إنتاج النفط فتُتهم سريعا بـ"الوقوف مع روسيا"، لكن إيران تتدخل في الحرب فعليا، دون أي عواقب حقيقية.
هذه مجرد صورة واحدة من مربع ألغاز (البازل) يشبه ذلك الذي يباع في المتاجر، لكنه يجد بعض التطبيق في الواقع، خاصة فيما يتعلق بسياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن، الملتبسة والغريبة ضد دول بعينها.
وخلال الأيام الماضية، تعرضت السعودية لحملة كبيرة في الولايات المتحدة وإعلان رسمي بـ"إعادة تقييم العلاقة" بعد قرار أوبك بلس، خفض إنتاج النفط، والذي أجمع خبراء ودول عدة داخل وخارج المنظمة، بأنه اقتصادي ويستجيب لمصالح المنتجين والمستهلكين.
وفي صورة أخرى من رقعة اللغز الأمريكي، التي نحاول تجميعها لنصل للصورة الكاملة، تخرج اتهامات لإيران بالتدخل في الحرب الروسية الأوكرانية عبر بيع طائرات كاميكازي بدون طيار لموسكو لكن واشنطن لا تحدث ضجيجا.
بل أن إيران تضاعف في الوقت الحالي، تورطها في الحرب الأوكرانية، إذ قال مسؤولان إيرانيان كبيران ودبلوماسيان إيرانيان لـ"رويترز"، قبل أيام، إن طهران وعدت بتزويد موسكو بصواريخ أرض - أرض والمزيد من الطائرات بدون طيار، لكننا حتى الآن لا نرى مؤشرات على إعادة تقييم جادة للسياسة في واشنطن.
وبجانب ركن "الانحياز لروسيا" في رقعة البازل، هناك أيضا ركن الملف الحقوقي؛ فبالعودة بالذاكرة إلى حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2020، وتولي بايدن السلطة مطلع 2021، نجد أن التعاطي مع قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي كان مبالغا فيه.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، أغلق القضاء السعودي ملف مقتل الصحفي جمال خاشقجي، بإصدار أحكام رادعة بالسجن ضد المتورطين، لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي كان في حينه مرشحا، كان يصر على انتقاد الرياض.
بايدن الذي خلع عباءة المرشح وجلس على مقعد الرئيس في المكتب البيضاوي في يناير/كانون ثاني 2021، لم يحترم أحكام القضاء السعودي، وحاول الضغط على المملكة عبر نشر تقرير للاستخبارات الأمريكية عن ملابسات مقتل الصحفي خاشقجي.
في المقابل، وفي نفس الملف، قٌتلت شابة على يد شرطة الأخلاق في إيران، وتحركت موجة احتجاجات تغرق شوارع إيران منذ أسابيع، وسط قمع وحشي أدى لمقتل المئات من المتظاهرين، لكن رد واشنطن كان أقل بكثير من المتوقع، واكتفت بعقوبات على شرطة الأخلاق، وفق مراقبين.
سياسة غير متوازنة
هنا تبدأ "البازل" في الوضوح أكثر وأكثر ونقترب من الصورة الكاملة، إذ قال مايكل دوران، مدير مركز السلام والأمن في الشرق الأوسط في معهد هدسون بالولايات المتحدة، "هذا الميل إلى التغاضي عن الإرهاب الإيراني مع التركيز على أفعال السعودية، سواء كانت حقيقية أو متخيلة، هي لازمة شائعة لإدارة بايدن".
وتابع في مقال نشر بصحيفة "نيويورك بوست" الأمريكية: "كمرشح للرئاسة، تعهد جو بايدن بتحويل المملكة إلى دولة منبوذة"، مضيفا: "بعد توليه منصبه، حاول الوفاء بالوعد، من بين أمور أخرى، نشر تقرير عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي".
وأضاف: "لكن عندما أرسل النظام الإيراني عملاء لاختطاف الناشطة مسيح علي نجاد من منزلها في بروكلين في قلب الولايات المتحدة، لم يكن للجريمة تأثير ملموس على السياسة الأمريكية تجاه طهرانا، وواصلت واشنطن التزامها بإحياء الصفقة النووية".
وبجانب السياسة الأمريكية غير المتوازنة بشكل غريب بين إيران والسعودية، تصر إدارة بايدن، وفق سياسيين وخبراء أمريكيين، على تحميل الرياض، مسؤولية أخطاء أمريكية واضحة.
ففي مسألة قرار أوبك، جزء كبير من الأصوات في الداخل الأمريكي ترى أن أزمة النفط في الولايات المتحدة وتأثرها بالأسعار العالمية، هي خطأ إدارة بايدن من البداية، لكنه يصر على إلقاء اللوم فيه على الرياض.
عضو الكونغرس عن تكساس، لانس جودن، كتب على "تويتر" قبل أيام: "إلغاء مشروع خط أنابيب كيستون، وإلغاء عقود إيجار النفط، وإلغاء عمليات التنقيب عن النفط.. بدلاً من إلقاء اللوم على السعودية، يجب أن ينظر جو بايدن في المرآة".
وكتب السياسي الأمريكي، ستيف لاسيس: "لنكن صادقين بشأن ما حدث: بايدن دمر صناعة النفط والغاز الأمريكية وجعلنا نعتمد مجددا على أوبك، ثم توسل لأوبك لإنتاج المزيد من النفط".
وتابع: "قامت أوبك بالعكس: خفض الإنتاج بمعدل 2 مليون برميل يوميا.. أوبك تسخر من بايدن".
أما السياسي الجمهوري، روجر وليامز، فكتب على حسابه على "تويتر": "سياسات الطاقة الفاشلة للرئيس بايدن تجعلنا على حافة أزمة نقص الطاقة".
وأاضاف: "لقد ترٌكت بلادنا دون قدرة على إنتاج النفط لمواكبة الطلب، وسيدفع الأمريكيون الثمن"، وفق ما طالعته "العين الإخبارية".
ورغم أن إدارة بايدن تجني ثمار أخطائها الذاتية في ملف النفط وأسعاره، وفق سياسيين أمريكيين، إلا أن الرئيس يصر على عدم الاعتراف بذلك وإلقاء المسؤولية على السعودية التي تصرفت وفق مصالح اقتصادية بحته تخص أعضاء "أوبك بلس".
لكن لعبة "البازل" الأمريكية تعود وتفرض نفسها: لماذا هذا الموقف من السعودية؟، هنا يرد مايكل دوران، ويقول "تصور الإدارة الحالية سياساتها على أنها ردود عقلانية وعملية للواقع، لكنها في الواقع متجذرة في نظام الاعتقاد الاستراتيجي للتيار التقدمي "اليساري" داخل الحزب الديمقراطي".
وأوضح "يرى التقدميون أن الصراع في الشرق الأوسط ناتج عن تحالف يضم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب والجمهوريين ذوي العقلية الأمنية والمسيحيين الإنجيليين".
واستطرد "بعبارة أخرى، كل من يكرهه التقدميون في السياسة الداخلية، إلى جانب عدد قليل من الشخصيات الأجنبية المتحفزة، يشكلون ما يمكن تسميته "بمعسكر الحرب".
ومضى قائلا "لكن وفق هذه السردية الغريبة، لن تكون إيران عضوًا في معسكر السلام، لكنها هدف دبلوماسي. يلاحق فريق بايدن إيران لإبرام اتفاق نووي؛ فعداء المحافظين لهذه المطاردة الدبلوماسية يسير لعاب الطرف الآخر، التقدميين".
وتابع "لسوء حظ بايدن، فإن طائرات الكاميكازي الإيرانية بدون طيار في أوكرانيا توضح للناخب الأمريكي العادي، عدم جدوى هذه المطاردة الدبلوماسية، وتتزايد الدعوات للتخلي عن الاتفاق النووي الإيراني والعودة إلى سياسة الرئيس دونالد ترامب المتمثلة في الضغط الأقصى".
ووفق مايكل دوران، فإن بايدن يستمر في سياسته غير المتوازنة والغريبة ضد السعودية وإيران، لأسباب داخلية بحتة، تتعلق بمعدلات تأييده داخل حزبه الديمقراطي الحاكم.
وأضاف: "أي تغيير في هذه السياسية سيتسبب في اضطراب في حزب بايدن"، مضيفا "استمال الرئيس، التيار التقدمي في انتخابات 2020 بتأييد وجهة نظرهم القائلة بأن التسوية السلمية بشأن إيران في متناول اليد بسهولة".
ومضى قائلا "إذا كان بايدن سيعيد السياسة الأمريكية إلى تلك التي صاغها ترامب، فإنه سيولد معارضة شرسة من العنصر الأكثر ديناميكية في الحزب الديمقراطي؛ اليسار".
جذور الأزمة
بصمات التيار التقدمي ظهرت أيضا في قضية أوبك والنفط، لكن في جذور الأزمة، إذ قال دوران "كان يمكن الاستفادة من الاحتياطيات الهائلة من النفط والغاز الطبيعي في الولايات المتحدة، كأحد أبسط الطرق وأكثرها فاعلية لخفض سعر الطاقة على مستوى العالم".
وتابع: "ومع ذلك، فضل بايدن احترام صفقة ضمنية مع التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي، لتأخير تطوير صناعات الوقود الأحفوري الأمريكية"، مضيفا أن هذه الصفقة الضمنية جاءت على خلفية رغبة بايدن في الحفاظ على قاعدة تأييده داخل الحزب الحاكم.
تحليل دوران الذي استند إلى تبني بايدن خطاب التيار التقدمي منذ الحملة الانتخابية في الرئاسة، قال أيضا "إذا خالف بايدن الصفقة الضمنية وهاجم التقدميين، فإنه سيخسر أصوات. لكن إذا هاجم السعوديين، فإنه سيبقي قاعدته السياسية سعيدة".
ومضى قائلا "لهذه الأسباب، يعامل فريق بايدن حليفنا السعودي كعدو وعدونا الإيراني كصديق محتمل".
لذلك، فإن "رقعة البازل" في سياسة بايدن، تستند إلى قلب الأمور؛ عبر تحويل الحليف إلى خصم، ومهاجمته باستمرار، فيما تحول الخصم إلى حليف محتمل في صفقة نووية مستقبلية، وتتغاضى عن انتهاكاته وتورطه في الحرب بأوكرانيا.
هذه السياسة الغريبة تنبع بالأساس من عوامل داخلية تتعلق بسطوة التيار التقدمي "اليساري" على الحزب الديمقراطي، ومساهمة هذا التيار في وصول بايدن لسدة الحكم بالأساس، فربما هي عملية تسديد فواتير قديمة، واستعداد لجولة انتخابات الولاية الثانية، وفق مراقبين.
لكن هذه السياسة وما يرتبط بها من أخطاء استراتيجية كبيرة سواء عبر المغامرة بالعلاقات الاستراتيجية مع السعودية، أو تهديد صناعة النفط الأمريكية، تكلف بايدن شعبيته، وتزج به إلى معدلات تأييد متدنية للغاية.
وفي وقت سابق هذا الشهر، أظهر استطلاع رأي أجرته رويترز/إبسوس، انخفاض شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن لأدنى مستوى لها خلال ولايته الرئاسية، قبل أسابيع فقط من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
وخلص الاستطلاع الذي أُجري على مدى يومين، إلى أن 40% فقط من الأمريكيين يتفقون مع أداء بايدن الوظيفي، مقارنة بنسبة 41% الأسبوع الذي قبله.
aXA6IDE4LjIyMy4yMzcuMjQ2IA== جزيرة ام اند امز