بعد عام من "الجائحة" أو أكثر قليلاً فإنها بقدر ما أصابت البشرية من أذى؛ مرضاً ووفاة وتراجعاً اقتصادياً ومشكلات نفسية وعصبية.
فإنها فيما بين الدول والجماعات الإنسانية لم تخلُ من صراعات تنوعت منذ بداية التعرف على الفيروس التاجي حتى وصلنا إلى اللحظة التي بدت بعيدة للغاية وقتها، وهي اكتشاف اللقاح وإنتاجه وتوزيعه.
في الأول كان الصراع السياسي على من بدأ المرض، وبعدها عمن يتحمل مسؤولية انتشاره، ومن لديه القدرة على مكافحته. لم يخلُ الأمر من مناظرات كبرى تحزبت لها دول وجماعات وأصحاب مدارس فكرية؛ وجرى السباق بين النظم السياسية "الديمقراطية" و"السلطوية" التي لديها القدرة على مقاومة الوباء. أصبح البلاء جزءاً من العلاقات الدولية، وبشكل ما فإن التوازي بين قصة الفيروس ورواية الانتخابات الأمريكية جعل ما يجري في الولايات المتحدة جزءاً من الحالة العالمية التي تواجه أمراً لم تعرفه البشرية من قبل.
صحيح أن العالم عرف الوباء من قبل، وفي الذكرى كانت تجربة "الإنفلونزا الإسبانية" حاضرة طوال الوقت بما أدت إليه من وفاة ٥٠ مليوناً من البشر بين عامي ١٩١٨ و١٩٢٣. ولكن العالم لم يكن كما هو عليه الآن، ولم يكن هناك تنظيم عالمي مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، يتحدث عن "المجتمع الدولي"، وكانت "عصبة الأمم" لا تزال في مهدها، وحتى بعد أن تخطت المهد فإنها لم تكن لديها القدرة ولا الشرعية التي تسمح لها بالتعامل مع كارثة بهذا الحجم، ولا كانت هناك وسائل اتصال عالمية تضخ على العالم أجمع أرقام الإصابات والوفيات على مدار الساعة، ولا كانت هناك تلك القضايا المشتركة حول فتح الأبواب وإغلاقها للسفر والتفاعل مع شعوب العالم الأخرى.
كانت كل التجارب في الإغلاق والفتح عالمية، وفيها معسكرات سياسية داخلية بين هذا وذاك، وفي كل الأحوال كان العالم يتعلم من الاختلاف أنه لا توجد صيغة واحدة ناجحة للتعامل مع كورونا، ولا كانت هناك صورة واحدة فاشلة أيضا. في دول مثل نيوزيلندا وكوريا الجنوبية والصين وصلت الحالات فيها إلى الذروة بسرعة ثم تراجعت إلى الصفر، ومرة أخرى عادت من جديد، وفي كل مرة كانت هناك تجربة وعلم.
مرت البشرية بكثير من الاتهامات المتبادلة أغلبها بين الصين والولايات المتحدة، ولم تخلُ الاتهامات من "نظرية المؤامرة" التي تعود بالمسؤولية إما على دول وإما على قوى مجهولة شريرة. ولكن التوافق العالمي كان على أن اكتشاف اللقاح سوف يكون نقطة فاصلة تخرج بعده البشرية من أزمتها بعد أن يتم تطعيم البشر ضد الفيروس. كانت تلك النهاية السعيدة مأخوذة عن فيلمين خرجا من عباءة "هوليوود" هما "الانتشار Outbreak" و"العدوى Contagion"، حيث تنتهي القصة المعقدة بالتوصل إلى الحالة "صفر" التي بدأ عندها الوباء، وبعدها يمكن إعداد اللقاح الذي ينقذ البطل أو البطلة أو كلاهما معا، وبعدها تأتي كلمة "النهاية".
الواقع لم يكن كذلك على إطلاقه، فكانت القصة مستمرة، والخلاف بين البشر والصراع بين الدول أخذ أشكالاً جديدة. لم يكن ممكناً تصور أنه عندما سوف يأتي اللقاح فإن عدداً غير قليل من البشر رفضوه، وكان من بينهم أطباء وممرضون ظنوا في الأمر خدعة من نوع آخر. جاءت وألحت نظرية المؤامرة مرة أخرى بأن اللقاح سوف يكون فيه شريحة تتابع الشخص وتجعله تحت المراقبة والسيطرة. الأقل تطيراً من البشر نزعوا إلى الانتظار وأن يكون موقفهم من اللقاح متوقفاً على مواقفهم السياسية.
في الولايات المتحدة، أظهر استطلاع في فبراير المنصرم أجراه مركز "بيو" للأبحاث أن 69% من الأمريكيين البالغين إما قد تلقوا جرعة واحدة على الأقل من اللقاح، أو ينوون التطعيم عندما يستطيعون ذلك. ولكن لا يزال هناك انقسام حزبي عميق في الاستعداد للتلقيح، وفي كيفية نظر الأمريكيين إلى الخطر الناجم عن الوباء. وجد عمل مركز "بيو" لاستطلاعات الرأي العام، واستطلاعات أخرى حديثة، أن الديمقراطيين أكثر استعدادا من الجمهوريين لتلقي اللقاح، ومن المرجح أن يكونوا قلقين بشأن تداعيات الوباء على الصحة العامة.
أصدرت شبكة CBS الإخبارية استطلاعا للرأي أُجري بين 10 و13 مارس أظهر أن 33% من الجمهوريين يقولون إنهم لن يحصلوا على اللقاح عندما يصبح متاحا لهم، بينما قال 10% فقط من الديمقراطيين نفس الشيء. تأتي هذه النتائج في أعقاب استطلاع حديث أجرته شبكتا NPR و PBS، وجد أن 47% من الأشخاص الذين دعموا الرئيس السابق دونالد ترامب في انتخابات 2020 يقولون إنهم لن يختاروا التطعيم (مقابل 10% من مؤيدي بايدن)، كما جاء في استطلاع أجرته جامعة "مونماوث" في وقت سابق، أن 59% من الجمهوريين إما يريدون الانتظار و"رؤية كيف ستسير الأمور" قبل التطعيم، أو قالوا إنهم من المحتمل ألا يحصلوا على التطعيم، وعلى النقيض من ذلك، شعر 23% من الديمقراطيين بنفس الشعور.
ولكن الانقسام السياسي في مسألة اللقاح ليس مقصوراً على الميول الحزبية، وتأييد المرشحين للرئاسة، وإنما يمتد إلى الأعراق والإثنيات. ومن الثابت أن نسبة الإصابة بالفيروس التاجي كانت أعلى بشكل ملموس بين السود والملونين بصفة عامة أكثر من الأمريكيين البيض. وعزا المحللون ذلك إلى الفوارق في الرعاية الصحية - بما في ذلك معدل الوفيات غير المتكافئ والمدمر لفيروس كورونا في المجتمعات السوداء، والتأخر الحالي في عدد الأشخاص السود الذين يحصلون على لقاح COVID-19 مقارنة بنظرائهم البيض. ومع ذلك وفي تقرير منشور في The Daily Beast في ١٩ مارس الجاري، فإنه بعد الكثير من المخاوف من رفض اللقاح بين السود فإنه ثبت أنها في غير محلها بعد مشاهدة فاعلية اللقاح، وتلقي المعلومات حول سلامة الحقن.
ما حدث كان هو العكس تماماً، حيث تبين أن 56٪ من المستجيبين الجمهوريين البيض قالوا إنهم لن يحصلوا بشكل قاطع على لقاح لفيروس كورونا، أو إنهم غير متأكدين، بينما قال 31٪ فقط من السود و30٪ من اللاتينيين نفس الشيء. وللأسف فإنه لا توجد معلومات كثيرة متاحة عن التقسيمات السياسية داخل الدول الأخرى تجاه الميل إلى التعامل مع اللقاحات المتوافرة.
كل هذا الضجيج والخلاف السياسي والعرقي ربما يكون مجرد مرحلة أخرى في التعامل مع الوباء الذي رغم كل شيء لا يبدو مفارقاً لبني البشر في القريب العاجل بشكل كامل. والأرجح أن المرحلة المقبلة أو ما بعد اللقاح سوف تشهد الكثير من الدراسات التي تقيس المشكلات وتطرح مناهج للتعامل معها بعد أن بقي بعد كل شيء أن التجربة كانت عالمية ومشتركة سواء كان ذلك في الجانب الصحي أو الآخر الاقتصادي أو الثالث السياسي. وما نعرفه في هذه اللحظة هو أنه قد تكون لكل دولة في العالم قصتها وخصوصياتها الخاصة، ولكنها في نفس الوقت تمثل تجربة عالمية لا تستطيع الدول التعامل معها منفردة.
صحيح أن تجربة اللقاحات أثبتت مرة أخرى أن أصحاب القوة والقدرة والعلم كان لهم النصيب الأكبر والأسرع من اللقاح؛ ولكن ذلك لم ولن يكون كافياً لهم للنجاة من فيروس آخر. هل يمكن لمنظمة الصحة العالمية أن تقود مسيرة التعامل مع فيروسات أخرى؛ وإذا كان مجلس الأمن له دور في قضايا السلم والأمن الدوليين، فهل يكون للمنظمة دور مماثل فيما يخص الأمراض وانتشارها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة