لم يعد النفوذ في العصر الحديث يُقاس بالحدود أو بعدد الجيوش، بل بقدرة الدول على التحكم في تدفقات المعلومات وصناعة السرديات.
فاليوم.. تحولت الخوارزميات إلى أدوات تأثير حقيقية، وتصبح شبكات التواصل ساحات حرب ناعمة تدور فيها معارك الصورة والرأي والموقف.
في هذا العالم الذي يُعاد تشكيله على شاشات الهواتف، تقف دولة الإمارات بثقة، متسلّحة بوعي قيادتها ورؤيةٍ تستشرف المستقبل، لتوازن بين الانفتاح التقني والحوكمة، وبين الابتكار والمسؤولية، فهي تدرك أن امتلاك التقنية دون إدراك أخطارها أشبه بامتلاك سلاح بلا ضوابط.
تضليل رقمي بصري
أحد الأمثلة الحديثة على خطورة هذه المعركة ما كشفته قناة فرانس 24 مؤخرًا، حين تم تداول صورة من الأقمار الصناعية على أنها تُظهر مقابر جماعية في السودان. الصورة حصدت أكثر من 15 مليون مشاهدة على منصة إكس وأثارت موجة من الغضب العالمي، قبل أن يتبين لاحقًا أنها قديمة وتُظهر قطعان ماشية حول بركة مياه في منطقة كومية.
الحادثة توضح كيف يمكن لصورة واحدة تُنشر خارج سياقها أن تُحدث تأثيراً على الرأي العام، وتحوّل الحقيقة إلى ضحية لتقنيات النشر السريع والتفاعل الآلي، فالتضليل لم يعد يعتمد على التزوير، بل على سحب الحقائق من سياقها وتقديمها في إطار يخدم أهدافًا سياسية أو أيديولوجية.
توظيف التقنية في حملات التضليل
في المنطقة، لجأت جماعة الإخوان إلى استخدام أنظمة رقمية تعمل بالذكاء الاصطناعي لتنفيذ مهام أتوماتيكية على الإنترنت وتستخدم في تحليل البيانات وإدارة المحتوى أو التأثير في اتجاهات الرأي العام وهي ماتسمى بـ"البوتات"، حيث استخدمت مؤخراً في حملات رقمية تستهدف دولة الإمارات وروايتها الوطنية من خلال انتاج مقاطع وصور مُولّدة آليًا، وتُترجم إلى لغات متعددة مع التركيز على اللغة الإنجليزية للوصول إلى جمهور عالمي أشمل، وتُضخّم عبر آلاف الحسابات الوهمية التي تخلق وهمًا بوجود رأي عام مؤيد لتلك السرديات.
بهذا الأسلوب، يتحول المحتوى الرقمي إلى “غرف صدى” تكرّر الأكاذيب حتى تبدو كأنها حقيقة، ومع تطور الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت هذه الحملات أكثر إتقانًا في محاكاة الخطاب البشري، وأصعب في كشفها دون أدوات متقدمة للرصد والتحليل.
الاستجابة الإماراتية الواعية
لم تتعامل دولة الإمارات مع هذه الظاهرة كردّ فعل مؤقت، بل وضعت إطارًا استراتيجيًا شاملًا يربط التقنية بالحوكمة، حيث أصدرت القانون الاتحادي لحماية البيانات الشخصية، وأطلقت الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي 2031، ووقّعت ميثاق تطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي 2024 الذي يربط الابتكار بالمسؤولية المجتمعية.
كما تعمل الجهات الوطنية على توظيف الذكاء الاصطناعي في الرصد الإعلامي وتحليل المحتوى، واستخدام أدوات التعلم الآلي للكشف عن التضليل، ورصد الأنشطة الآلية المشبوهة في الفضاء الرقمي، وإلى جانب ذلك، تستثمر دولة الإمارات في رفع الوعي الإعلامي والمعلوماتي لدى المجتمع، حتى يكون المواطن نفسه خط الدفاع الأول في مواجهة التضليل.
التقنية والهوية
في عالمٍ أصبحت فيه الخوارزميات تصوغ الرأي العام، لا يمكن لأي دولة أن تكتفي بالحماية التقنية فقط، فالمعركة الحقيقية هي معركة وعي، تتطلب بناء إنسانٍ قادر على التمييز بين المعلومة والتزييف، بين المصدر الموثوق والخداع المنمّق.
التضليل الإعلامي لم يعد ظاهرة طارئة، بل أصبح آفة العصر الرقمية، تتبدّل وجوهها كما تتبدّل خوارزمياتها، لكنّ الدول الاستشرافية لا تترك الساحة للفوضى، بل تُحوّل كل تهديد إلى فرصة، ذلك لأن الدولة التي تُحسن قراءة المستقبل، لا تخشاه، بل تصنعه .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة