بين واشنطن وبكين.. كيف تحافظ دول الخليج على توازنها الاقتصادي؟

مع فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نهج الحمائية التجارية المرتكز على رسوم جمركية متفاوتة، تتصاعد الدعوات إلى نظام عالمي جديد يدعم التعددية القطبية المتوازنة.
وتشهد دول مجلس التعاون الخليجي العربي دينامية متزايدة في تفاعلاتها الاقتصادية مع أكبر قوتين بالعالم، وهما؛ الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي. لذلك؛ يبقى الرهان الاستراتيجي هو الحفاظ على التوازن للاستفادة من فرص التنافس.
لقد أصبحت التوازنات الاقتصادية حول العالم موضوعاً حيوياً يفرض نفسه على طاولة حوار المنتديات العالمية. ومن المتوقع أن يكون الموضوع حاضراً في النسخة الثانية من منتدى هيلي الدولي، الذي سينطلق الإثنين الموافق 8 سبتمبر/أيلول 2025 في العاصمة الإماراتية، أبوظبي، بمشاركة واسعة من قادة سياسيين وخبراء اقتصاديين ورواد فكر وأكاديميين من مختلف أنحاء العالم.
ويهدف المنتدى، الذي ينظمه مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بالتعاون مع أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية تحت شعار "إعادة ضبط النظام العالمي: التجارة، التكنولوجيا، الحوكمة"، إلى إثراء النقاشات الإستراتيجية في دولة الإمارات، وتقديم إضافات علمية وبحثية، والإسهام في تحديد ملامح البيئة العالمية في ظل التحولات السريعة والعميقة التي تعيد تشكيل المشهد العالمي خلال المرحلة الحالية.
تحالف استراتيجي بين واشنطن والخليج
في مايو/أيار الماضي أسفرت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى دولة الإمارات والسعودية وقطر عن تعهدات بصفقات استثمارية تصل في مجموعها من الدول الثلاث إلى نحو 3.2 تريليون دولار - قد تصل إلى 3.6 تريليون - والمرتقب ضخها خلال السنوات المقبلة.
فيما كشف الإقبال الهائل من كبار قادة قطاع التكنولوجيا الأمريكيين على مرافقة الرئيس الأمريكي في جولته الخارجية الأولى بدول الخليج الثلاثة، عن لحظة فارقة في تطور مستقبل الذكاء الاصطناعي؛ حيث أعلنت دولة الإمارات والولايات المتحدة الأمريكية عن إطلاق مشروع مشترك لإنشاء "مجمع للذكاء الاصطناعي" في العاصمة أبوظبي، هو الأضخم من نوعه خارج الأراضي الأمريكية، بطاقة استيعابية تصل إلى 5 غيغاواط.
وتمثّل العلاقات الأمريكية-الخليجية نموذجاً لتحالف استراتيجي طويل الأمد، يمتد لأكثر من أربعة عقود، اتسمت بالثقة المتبادلة والنمو المشترك.
وفق أحدث بيانات متوفرة على المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بلغ حجم التبادل التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي مع الولايات المتحدة 93.6 مليار دولار في عام 2023.
وتساهم صادرات دول المجلس في استقرار أسواق الطاقة العالمية وسلاسل الإمداد. وقد صدّرت دول المجلس خلال 2023 بضائع بقيمة 36.1 مليار دولار إلى الولايات المتحدة، بينما استوردت بضائع بقيمة 57.5 مليار دولار، ما يعني تحقق فائض للولايات المتحدة بقيمة 21.4 مليار دولار.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قد كشف خلال افتتاح أعمال القمة الخليجية - الأمريكية في الرياض في مايو/أيار الماضي أن حجم التبادل التجاري بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة في عام 2024 المنصرم بلغ قرابة 120 مليار دولار، بزيادة 28.2% على أساس سنوي.
- «منتدى هيلي» الدولي في أبوظبي.. إعادة رسم ملامح النظام العالمي
- أمريكا ودول الخليج.. شراكة تقود التحول الاقتصادي العالمي
شراكة فاعلة بين دول الخليج والصين
قامت الصين بتبنِّي سياسة خارجية فعَّالة تجاه منطقة الخليج، مُنْذُ تولِّي الرئيس تشي جين بينغ الحكم، عام 2013، وحدوث صعود صيني سياسي واقتصادي متنامي، وفي ظل النمو الخليجي السريع، توجَّهت دول الخليج نحو التعاون مع بكين وإنشاء علاقات ثنائية وعلى مستوى مجلس التعاون الخليجي؛ ما أدَّى إلى تطور العلاقات على المستوى الاقتصادي والسياسي في العقود الأخيرة، والذي يأمل أن يتوج بتوقيع معاهدة التجارة الحرة بين مجلس التعاون الخليجي والصين، وتأتي هذه العلاقة في إطار وعي الجانبين بحتمية ضرورة التعاون والانفتاح بما يعود على اقتصاداتهم بالنفع.
ويعمل الجانبان بشكل مستمر على تعميق التعاون التجاري والاستثماري، خاصةً في ظل التغيرات العالمية وزيادة أهمية الشراكات الإقليمية.
وتُعد العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول الخليج ركيزة أساسية في التعاون الثنائي، فقد أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر لمعظم دول الخليج، إذ تزداد قيمة التبادل التجاري بين الجانبين في العقدين الأخيرين تدريجياً؛ لتبلغ في 182 مليار دولار خلال عام 2014، وارتفعت إلى 228 مليار دولار في عام 2021. وقد تضاعف حجم التبادل التجاري بين الجانبين في الفترة من (2015 – 2022) بنسبة 140% ليبلغ نحو 316 مليار دولار في عام 2022. في حين بلغ نحو 287 مليار دولار خلال عام 2023.
وتمثل الطاقة حجر الزاوية في العلاقات بين الجانبين، حيث تعتمد الصين على الخليج كمصدر رئيسي لتلبية احتياجاتها المتزايدة من النفط، وتستورد ما يقارب 40% من وارداتها النفطية من دول مجلس التعاون، خصوصاً من السعودية والإمارات. وبالتوازي مع ذلك، توسعت مجالات التعاون لتشمل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المتقدمة، حيث وقّعت الصين اتفاقيات مع الإمارات لتطوير مشاريع الطاقة الشمسية والنووية ضمن مبادرة الحزام والطريق.
مرحلة جديدة من العلاقات مع أوروبا
يسعى الاتحاد الأوروبي إلى بناء "ممر اقتصادي" مع دول الخليج، التي تعد أحد أهم مراكز مصادر الطاقة من النفط والغاز في العالم.
فيما تمثل دول الاتحاد الأوروبي شريكاً استراتيجياً لدول لخليج، إذ تستورد منها أنواعاً مختلفة من الصناعات بما فيها العسكرية والتكنولوجية، في وقت تسعى فيه الدول الخليجية لتوطين كثير من تلك الصناعات لديها، ما يؤهل الجانبين لعلاقة شراكات تكاملية.
وتمثل دول مجلس التعاون الخليجي "منطقة مهمة"، فيما يخص التجارة والاستثمار، حيث تعد سادس أكبر سوق تصدير للاتحاد الأوروبي.
في عام 2024، بلغ إجمالي تجارة السلع بين الاتحاد الأوروبي ودول الخليج نحو 161.7 مليار يورو (189.4 مليار دولار). سجّلت واردات الاتحاد الأوروبي نحو 62.3 مليار يورو (72.9 مليار دولار)، وتصدّرتها منتجات الوقود والتعدين والمعادن الأساسية وفق بيانات المفوضية الأوروبية.
بلغت صادرات الاتحاد الأوروبي إلى دول الخليج 99.4 مليار يورو (116.4 مليار دولار) وتصدّرها قطاع الآلات والمعدات وقطاع الكيماويات ومعدات النقل والمواد الغذائية.
ويُعدّ الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، حيث شكّل 11.7% من إجمالي تجارة السلع للمجلس مع العالم في عام 2024.
وفي عام 2023، بلغ إجمالي رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة القادمة من الاتحاد الأوروبي إلى دول الخليج 235.9 مليار يورو (276.3 مليار دولار)، في حين وصل رصيد الاستثمارات الواردة إلى الاتحاد من المنطقة إلى 215.2 مليار يورو (252.1 مليار دولار)، وفق بيانات الاتحاد الأوروبي على موقعه الإلكتروني.
وختاماً، تعتمد دول الخليج على استراتيجية "التوازن متعدد الأبعاد" في إدارة علاقاتها مع القوى الكبرى، مستندة إلى اعتبارات المصلحة الوطنية وتوازنات القوة الدولية، بدلاً من الارتهان لتحالف أحادي. وهذا ما جعلها اليوم فاعلاً دولياً مؤثراً، يعتمد نهجاً تعددياً واقعياً يرتكز على تنويع الشراكات الدولية، واستثمار تنافس القوى الكبرى بما يخدم مصالحه الوطنية، وترسيخ أمنه ونموه المستدام.