هذه النعومة الأمريكية كان وراءها صدمة كبرى في صميم القدرات الأمريكية عندما صعدت سريعا إلى مقدمة الدول التي تنتج مصابين بالفيروس.
سؤال العنوان مشروع تماماً، فالولايات المتحدة الأمريكية كان يسبقها دائماً حتى وقت قريب كلمات "الدولة العظمى الوحيدة في العالم"، وهو الوقت الذي كانت فيه قائدة للنظام الدولي لأنها عسكرياً لديها القدرة للوصول إلى كل أنحاء العالم بحاملات طائرات عددها ١٩، وهو ما لا يقارنها فيه دولة أخرى في الدنيا كلها، وهي الدولة التي اخترقت الفضاء الخارجي ليس إلى القمر القريب وإنما المريخ البعيد.
وهذه ليست رحلات خيالية وإنما هي تكنولوجيا للنقل والانتقال والإعاشة تنعكس على قدرات سلمية وعسكرية. وهي الدولة التي لغتها الإنجليزية مختارة لتيسير حركات المال والطيران عبر الكرة الأرضية؛ أما دولارها صعد أو هبط فلا يزال هو عملة العالم الرئيسية.
هي الدولة التي لغتها الإنجليزية مختارة لتيسير حركات المال والطيران عبر الكرة الأرضية؛ أما دولارها صعد أو هبط فلا يزال هو عملة العالم الرئيسية. وباختصار فمهما كانت حسابات القوة الصلبة أو الخشنة أو الناعمة فإن الولايات المتحدة تقع في المقدمة بين دول العالم وهي حقيقة كانت تعلمها الولايات المتحدة.
وباختصار فمهما كانت حسابات القوة الصلبة أو الخشنة أو الناعمة فإن الولايات المتحدة تقع في المقدمة بين دول العالم وهي حقيقة كانت تعلمها الولايات المتحدة، وتعلمها بقية دول العالم الصغرى التي سعت للسير في ركابها، والكبرى التي حاولت التحالف معها أو بناء القدرة لمنافستها إن لم يكن في عناصر القوة الشاملة، فإنه في بعض قطاعاتها على الأقل.
كانت هذه هي الصورة العامة منذ انتهاء الحرب الباردة ١٩٨٩/١٩٩٠ وحتى نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين عندما كانت الولايات المتحدة تقود العالم، أو تسيطر عليه لا فرق، إما بالقوة العسكرية كما فعل جورج بوش الأب في البداية عندما شكّل تحالفاً لتحرير الكويت، ثم في عهد بيل كلينتون الذي حقق الاستقرار في البلقان بالحرب في البوسنة والهرسك ثم كوسوفو، وجورج بوش الابن بغزو أفغانستان أولا ثم العراق ثانياً؛ وأخيراً في عهد باراك أوباما الذي وجد أن القوة العسكرية ليست ناجعة في كل الأحوال وأنه آن الأوان لكي تكون "القيم الأمريكية" هي رأس الحربة في تغيير العالم لكي يصبح على الصورة الأمريكية.
ما حدث فعلياً أن العالم لم يتبنَ الصورة الأمريكية، ووقت كتابة هذا المقال كانت الصورة الشائعة في الصحف العالمية صورة الطائرة الروسية التي تحمل معونات طبية للولايات المتحدة كما سبق أن أرسلت موسكو طائرات مماثلة لدول أخرى. ولم يقتصر الأمر على موسكو ومعوناتها وإنما امتد أيضاً إلى بكين التي أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قيامه بالاتصال برئيسها "شاي جينبينج" لتنسيق التعاون في مكافحة "كوفيد ١٩".
وكانت الصورة الأمريكية المقابلة لصورة الطائرة الروسية هي مشهد هبوط بحارة حاملة طائرات أمريكية "تيودور روزفلت" في قاعدة جوام البحرية في المحيط الباسيفيكي بعد إصابة الحاملة بالفيروس المميت؛ وهو الأمر الذي بات متوقعاً أن يكون منتشراً في القوات الأمريكية الموجودة في الغواصات وحاملات الطائرات والقواعد الأمريكية في العالم. وجرى ذلك بعد فترة من الزمن ركزت فيها السلطات الأمريكية على اتهام الصين بأنها المسؤولة عن انتشار وباء "كوفيد ١٩" في العالم.
قال الرئيس ترامب إن الدبلوماسيين والمسؤولين الصينيين ينشرون كذبة حول أصل الفيروس؛ وإن الحكومة الصينية تنشر عمداً مزاعم كاذبة بأن الولايات المتحدة طورت COVID-19 كأسلحة بيولوجية. "كانت الصين تطرح معلومات كاذبة، بأن جيشنا أعطاهم ذلك، وكان هذا خطأ. وبدلاً من أن أجد حجة، كان علي أن أسميها من أين أتت.. "لقد أتت من الصين".
ووفقاً لما جاء في مقال لباتريك تكر في نشره "ديفنس وان" فإن ترامب كان يشير إلى اثنين من التغريدات التي نشرها "ليجيان تشاو" نائب المدير العام لإدارة المعلومات بوزارة الخارجية الصينية، حث فيها القراء على قراءة اثنين من المقالات من قبل مركز أبحاث العولمة، وهو موقع كندي "ينشر بشكل متكرر التضليل والمعلومات المضللة المؤيدة لروسيا". ادعت المقالات أن الفيروس نشأ خارج الصين، واستشهدت بجلوبال تايمز، منفذ لصحيفة الشعب اليومية للحزب الشيوعي الصيني.
وأعاد سفراء الصين إلى جنوب أفريقيا، وجزر المالديف، وبوتسوانا، وسورينام، وإيران، تغريدة تشاو؛ بالإضافة إلى حسابات تويتر الرسمية للسفارات الصينية في فرنسا وتشاد والأردن وأوغندا والكاميرون.
كان ذلك نوعاً من الحرب الدعائية بين الطرفين حول من يتحمل مسؤولية تسرب الفيروس واشنطن أم بكين، وكان ذلك استسلاماً غير مسؤول لتيارات تآمرية عالمية، ولكن الولايات المتحدة كانت الطرف الذي طرفت عيناه أولا عندما حاول "مايك بومبيو" وزير الخارجية الأمريكي أن يخرج من حلقة الاتهامات المتبادلة بالقول "إن حملة التضليل التي تشنها الصين تهدف إلى تغيير المسؤولية. الآن ليس وقت تبادل الاتهامات. حان الوقت الآن لحل هذا الوباء العالمي والعمل على تقليل المخاطر على الأمريكيين والناس في جميع أنحاء العالم".
هذه النعومة الأمريكية كان وراءها صدمة كبري في صميم القدرات الأمريكية عندما صعدت سريعاً إلى مقدمة الدول التي تنتج مصابين بالفيروس متجاوزة إيطاليا والصين، وبأكثر عدد من الوفيات بينما كانت بكين قد بدأت تخرج من الأزمة.
وقت كتابة المقال كان عدد الوفيات من الفيروس في الولايات المتحدة قد تجاوز ٤ آلاف وهو رقم يتجاوز عدد ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١؛ والأخطر من ذلك، ووفقاً لما نقله "مات ستيب" في نشرة "إنتلجنسير" يوم ٢٩ مارس المنصرم عن أنتوني فاوتشي أحد كبار مستشاري الصحة العامة في المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية أنه يتوقع فيما بين 100000 و200.000 حالة وفاة بسبب الفيروسات التاجية في الولايات المتحدة، بالإضافة إلى أن احتمال وفاة مليون مواطن "ليس مستحيلاً، ولكنه غير محتمل"!
الحقيقة أنه بعد هذه التصريحات فإن الحد الأقصى المتوقع من قبل "فاوتشي" أصبح ٢٤٠ ألفاً؛ ولكن المعرفة بأن الغموض وقلة المعرفة الخاصة بالفيروس تجعل كل الأرقام افتراضية، ولكن المؤكد فيها أن الولايات المتحدة على كل ما نعرفه من عناصر قوتها لم تكن مستعدة للتعامل مع الفيروس، فضلاً عن قيادة العالم في مكافحته. وربما كان ذلك ممكناً فهمه على ضوء قناعة سائدة في الولايات المتحدة أن الأمراض المعدية هي من خصائص الدول الفقيرة والضعيفة التي تقع في العالم الثالث أو الجنوب عامة بما فيها الصين، ومن ثم كان التركيز الأمريكي في مكافحة الأمراض والسعي نحو تطوير العقار وسبل المعالجة فيها تركز على أمراض السرطان والسكري والسمنة والزهايمر.
ولكن هذا لا يكفي لتفسير تلك الحالة من التراجع التي لا يمكن نزعها من حالة الخروج الأمريكية من العالم، التي تمثلت في الخروج الأمريكي الاقتصادي والسياسي من اتفاقية باريس لمعالجة الاحتباس الحراري والخروج من اتفاقية التعاون الاقتصادي بين الدول الواقعة على المحيط الباسيفيكي، وأخيراً خروجها العسكري من سوريا والتحضير للخروج من أفغانستان والعراق. هذا الخروج كان مهيناً في الأولى لأن إقامة السلم مع طالبان في أفغانستان كان مماثلاً لما جرى قبل نصف قرن تقريباً عندما خرجت أمريكا من فيتنام وانتهى الأمر باستيلاء قوات الفيت كونج على شمال وجنوب البلاد، ولم تكن هناك فرصة حقيقية لأهل البلاد للاختيار.
الآن فإن الانسحاب من أفغانستان يأتي في وقت تضعف فيه الحكومة المركزية، وتستولي فيه طالبان على أكثر من نصف البلاد، وباختصار فإن الولايات المتحدة تضع نهاية مهزومة لحربها ضد الإرهاب. في العراق فإن أمريكا تترك الدولة بعد أن أضعفت قوائم الدولة فيها بدستور متهافت، وبعد أن تسربت إيران إلى كل مفاصل الدولة العراقية، وتتوسع في الوقت نفسه في هلال شيعي يتمدد من العراق إلى سوريا إلى لبنان إلى اليمن. فهل هذه نهاية القصة الأمريكية في قيادة العالم؟ السؤال والإجابة أكثر تعقيداً مما تبدو عليه الأمور!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة