لم يكن حال كرة القدم مما يتماشى دوما مع التمنيات والرغبات، فالساحرة المستديرة كما يقال عنها لها منطقها الخاص
في كأس الأمم الأفريقية الجارية في مصر هذه الأيام خرج الفريقان العربيان المغرب ثم مصر من دور السادس عشر، أي عندما بدأت المسابقة تدخل أدوارا أكثر جدية يخرج بعدها المغلوب من الدورة كلية، كلا الفرقتين كانتا مرشحتين فضلا عن الوصول إلى الأدوار النهائية، فإنهما كانا المرشحتين للتلاقي في المباراة النهائية التي أرادتها الأحلام والخيالات العربية نهاية عربية خالصة.
لم يكن حال كرة القدم مما يتماشى دوما مع التمنيات والرغبات، فالساحرة المستديرة كما يقال عنها لها منطقها الخاص الذي يستعصي في معظم الأحوال على الحسابات والتقديرات والتخمينات.
لم يكن ذلك معبرا عن الحقيقة في شيء، ففي الأول والآخر فإنها كانت مباريات في كرة القدم، تجتمع للمنافسة وبعدها ينفض السامر، إذا كان هناك درس ينبغي للمصريين والمغاربة أن يتعلموه فإنه لا ينبغي تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، فالأمر في الأول والآخر مباراة في كرة القدم
على أية حال فإن الحالة الشعبية والجماهيرية في المغرب، كما كانت في القاهرة، حيث حضرت جماهير مغربية غفيرة لتشجيع منتخبها، حزينة حزنا عميقا. لفت الجماهير أعلامها على رأسها، وراحت في بكاء أو انتابتها نوبة غضب عارمة. وفي اليوم التالي عندما جاء دور الهزيمة علي الفريق المصري فإن المصريين الذين شاهدوا المباراة بالملايين (٧٥ ألفا في ملعب المباراة والبقية في المقاهي والأندية الرياضية والاجتماعية والميادين العامة والساحات الشعبية، وفي كلها كانت هناك شاشات عريضة لعرض المباراة المهمة وانتظارا للنصر الموعود) خرجوا ليس في حالة حزن فقط وإنما غضب عارم، المدهش كان حالة الأطفال الذين انخرطوا في بكاء عميق بعد أن قام الآباء الذين هم غالبا من الطبقة الوسطى المصرية التي تريد دوما إعداد أبنائها إعدادا وطنيا بإعداد الأولاد للمباراة بالتركيز على أهميتها التاريخية، وأن ما سوف يشاهدونه هو انتصار للوطن.
وعندما جاءت الهزيمة قبل انتهاء المباراة بدقائق، بدا أن حلما ما قد ذهب وأنه لا سبيل إلى تعويضه أو الرجوع عنه، أو بمعجزة ربانية يكون الأمر كله فيها كابوسا سوف ينزاح بمجرد اليقظة، أو يمكن فيها إعادة المباراة مرة أخرى بشكل أو بآخر، المهم كان أن يذهب ما جرى إلى غير رجعة، ولكن الحياة ليس فيها مساحة لهذه الرغبات المستحيلة، ولحسن الحظ أنه لم يحدث في أي من المباراتين للمغرب (مع بنين) ومصر (مع جنوب أفريقيا) أن كان هناك شكا تحكيميا من أي نوع حول ضربة جزاء احتسبت خطأ أو واحدة كان لا بد من احتسابها وتجاهلها الحكم، كانت الهزيمة صافية ونقية من كل شائبة، وكان على الجمهور أن ينظر إلى المرآة وقد خرجت فرقته الوطنية من البطولة.
من الثابت أن أيا من هذه المشاعر الفياضة لا تحدث في حالات الإخفاق الوطني الأخرى، بالتأكيد فإنها ليست واردة في المسابقات الرياضية الأخرى، وهي لا تسبب حزنا عندما تفشل سلعة وطنية في الفوز في المنافسة العالمية وتجد لها سوقا في القارة الأفريقية أو في العالم، نحن نعلم من التاريخ القديم أن الدورات الأولمبية التي بدأت في اليونان القديمة كان الغرض منها تفريغ النزعات العدوانية في المسابقات والمنافسات بدلا من التخلص منها في حروب يقتل فيها الناس وتحرق المدن وتدمر الحضارات.
ولكن هذه الحكمة لم تعد واردة في المجتمع المعاصر، فالأمم التي تتسابق على كأس الأمم الأفريقية، أو كأس العالم، ليست في حالة الحرب التي كانت عليها المدن اليونانية القديمة. وفي الواقع فإن كثيرا من الدول، بل مناطق في العالم بأسرها، لا تجد لديها اهتماما كبيرا بكرة القدم. فقط أوروبا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا هي التي نجد فيها مثل هذه العاطفة.
أما شمال أمريكا وشرق آسيا فلا نجد فيها هذه المشاعر، فلا الولايات المتحدة، ما عدا نسائها الذين فازو بكأس العالم مرتين، والأقليات الأفريقية والإسبانية، ولا الصين أو الهند أو باكستان أو إندونيسيا أو اليابان، أي الغالبية من سكان العالم نجد فيها مثل هذه العاطفة الجياشة. هذه الدول والمناطق لديها رياضات أخرى تستجلب عواطفها ودموعها، وربما كان الاستثناء الوحيد على هذه القواعد العامة ما يخص المملكة المتحدة، التي لا يشك أحد في أنها هي التي اخترعت كرة القدم، ولديها أعظم مسابقة للأندية في العالم جعلت منها صناعة يكاد لا ينافسها أحد، وفي وقت من الأوقات كان المتعصبون الإنجليز لفريق بلدهم مما تخشاه الأنظمة الأمنية في العالم لأنهم لا يحزنون وإنما يمارسون العنف، ومع ذلك فإن إنجلترا ليست بين دول الصف الأول في الكرة العالمية، وفازت مرة واحدة في تاريخها بكأس العالم، ولا أظنها فيما أعلم فازت بكأس الأمم الأوروبية.
الأغلب أنه في الدول والمناطق التي لديها عاطفة جياشة فيما يتعلق بالفوز والهزيمة في كرة القدم فإن الرياضة اختلطت بشكل حاد بالعواطف الوطنية التي لا يكون فيها النصر أو الهزيمة حادثا في مباراة يصح فيها الاحتمالان، أو هكذا تكون كرة القدم؛ حيث يوجد الفائز والمهزوم باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، ولكن الواقع لم يعد كذلك، فمباريات الكرة تبدأ بعزف النشيد القومي، وملابس اللاعبين عليها شارات ومنها ألوان علم البلاد، والجمهور بالإضافة إلى حمل الأعلام فإنه كثيرا ما يبالغ فيها فيجعلها ملابسه أو ألوانا منها، وعندما يهتف للفريق فإنه يهتف للدولة.
في الدورة الأفريقية الجارية نجد أسماء البلاد تختلط مع أسماء الفراعنة والنسور والأسود والأفيال والسناجب والمرابطون، وكل هذه الأسماء لها دلالات قومية ورموز تاريخية؛ بل إنها أحيانا تختلط بالاستقلال الوطني والخروج من عباءة الاستعمار أو ما أشبه من ظروف خاصة، الحزن هنا من الهزيمة يأتي لأنه أولا كان حرمانا من الفرح الذي كان سوف يأتي فيضانا إذا ما نجح الفريق في الفوز، هنا فإن السعادة التي كانت في متناول اليد ذهبت إلى غير رجعة، وثانيا لأن كسرة القلب والوجيعة لا يمكن تعويضها أو الخلاص من آلامها حتى تأتي مناسبة أخرى يكون فيها خلاص آخر. وثالثا أن الحزن والألم والبكاء أحيانا يكون خلاصا نفسيا خاصا بالشخص نفسه الذي ذهب في المقام الأول لمشاهدة المباراة، لأنها وسيلة للخلاص من عناء توتر شخصي أو عائلي، وأحيانا يكون التوتر وطنيا.
في مصر، وربما في دول أخرى مثل روسيا التي جعلت من مباريات كأس العالم الماضية إعلانا عن روسيا الجديدة، فإن دورة الألعاب الأفريقية كانت من ناحية مناسبة لإعلان عالمي لخروج مصر من آثار "الربيع العربي" وآلامه وإرهابه، وفرصة لكي يعوض الفريق القومي الأحزان التي صاحبت نتائج مباريات كأس العالم المأسوف عليها هي الأخرى. الحصاد هذه المرة كان مختلطا، فقد نجحت الدولة المصرية والشعب المصري في تقديم أنفسهم بتنظيم مسابقة في زمن قصير، وإعداد بنية أساسية مشرفة من ملاعب وطرق وتنظيم واستقبال لضيوف وسائحين، ولكن الفشل جاء مع الفريق القومي، وخيبة الأمل مع لاعبين كبار، يلعبون في أندية كبرى، ويفوزون بجوائز كثيرة، ولكنهم فشلوا في ترجمتها إلى نصر وكأس، لم يستكمل الفرح أركانه، ظل ناقصا، وكان الجمهور يعرف أنه ناقص، وأن هذا النقص كان فرصة لأعداء مثل الإخوان المسلمين وقنواتهم التلفزيونية للشماتة والإعلان عن أن الفشل في كرة القدم كان فشلا في كل أمر آخر.
لم يكن ذلك معبرا عن الحقيقة في شيء، ففي الأول والآخر فإنها كانت مباريات في كرة القدم، تجتمع للمنافسة وبعدها ينفض السامر، إذا كان هناك درس ينبغي للمصريين والمغاربة أن يتعلموه فإنه لا ينبغي تحميل الأمور أكثر مما تحتمل، فالأمر في الأول والآخر مباراة في كرة القدم، التي سوف تظل باقية معنا ما بقي في العمر بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة