يفجيني بريماكوف.. سوريا المهمة الأخيرة لـ"رجل ميت"
بريماكوف نموذجاً للتعددية الثقافية السوفييتية؛ إذ ولد لأم يهودية، وأب روسي في العاصمة الأوكرانية كييف، ونشأ في تبليسي عاصمة جورجيا.
من بين دروب خمسة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، والتي كانت ذات يوم موضوع كتاب لرئيس الوزراء الروسي الأسبق يفجيني بريماكوف (1929-2015)، اختار الرجل درباً مختلفاً في نصائحه الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين. وقد حظي هذا الطريق السادس بحظ أوفر من سابقيه ووجد من يسلكه، فبحسب اعتقاد طيف واسع من المراقبين جاء قرار بوتين بالتدخل العسكري في سوريا بإيعاز من بريماكوف.
بريماكوف الذي شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات الروسية (كيه جي بي)، خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، متحصناً بخبرة واسعة في شؤون الشرق الأوسط، ولغة عربية سليمة، أتقنها خلال سنوات عمله كمراسل صحفي متخصص في شؤون الشرق الأوسط في الستينيات، تولى مهمة إخماد طبول الحرب في العراق؛ مرة في أوائل التسعينيات (1991)، وأخرى في أوائل الألفية الجديدة (2003).
فشل بريماكوف في منع اندلاع الحربين، لكنه أضرم من قبره الحرب الأخيرة في سوريا، وكاد الرئيس بوتين يعترف بذلك صراحة حينما كال المديح لبريماكوف خلال تشييع جثمانه في يونيو/ حزيران من العام الماضي، مؤكداً أنه شخصياً كان من بين من ينصتون إلى نصائح الأكاديمي المرموق. وقد خاض بوتين الحرب بالفعل بعد رحيل بريماكوف بنحو أربعة شهور.
كان بريماكوف نموذجاً للتعددية الثقافية السوفييتية؛ إذ ولد لأم يهودية، وأب روسي في العاصمة الأوكرانية كييف، ونشأ في تبليسي عاصمة جورجيا. وبعد التخرج في معهد الدراسات الشرقية في موسكو في عام 1953 عمل في الإذاعة ثم كمراسل صحفي لشئون الشرق الأوسط في صحيفة "برافادا" حتى 1970 قبل أن يحصل على مناصب في مراكز الأبحاث التي ترأسها لاحقاً.
في السنوات الأولى التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي انقسمت النخبة الروسية إلى ليبراليين موالين للغرب وقوميين برجماتيين. وكان كلا المعسكرين يطمح أن تنضم الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لخلق بنية أمنية أوروبية جديدة لتوحيد القارة، ولكنهم كانوا مختلفين حول السبل والعوامل التكتيكية. وكان القوميون الروس يزعمون أن موسكو إذا ما اتخذت مواقف مهادنة واعتمدت على القروض الغربية فإن الغرب سينظر إليها باعتبارها دولة ضعيفة.
وعلى النقيض من موقف النخبة الروسية، كان بريماكوف يناهض أي توسع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في وسط أوروبا، وكان غير مستعد لتقبل الرؤية الأمريكية لعالم أحادي القطب. ودفعه هذا الموقف إلى الدعوة لإنشاء ثالوث إستراتيجي بين روسيا والصين والهند وهو المفهوم الذي أدى لاحقاً إلى إنشاء مجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا.
كان الرئيس الروسي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، أول من لاحظ الملكات الدبلوماسية لبريماكوف، وقدراته التفاوضية، فاختاره لتولي منصب وزارة الشؤون الخارجية بين عامي 1996 و1998، وهو أمر تقبلته الدول الغربية على مضض.
ومع تولي بوريس يلتسن الرئاسة في روسيا وتردي الأوضاع الاقتصادية، وفشله في تمرير خياراته لمنصب الرئيس، اتجه إلى بريماكوف في محاولة يائسة للسيطرة على الأوضاع، وقد كان الرجل القادم من وسط اليسار، بخلاف الليبراليين الجدد، ينادي بدور أكبر للدولة في تنظيم الاقتصاد وتوجيه الاستثمارات. وبفضل مناوراته البارعة نجح في تشكيل حكومة تضم الشيوعيين والإصلاحيين، واعتمد سياسات للتخفيف الكمي للأزمة الاقتصادية.
ضخ بريماكوف الأموال في كل القطاعات لسداد الأجور، التي كانت قد توقفت بالفعل، وعين المزيد من الموظفين، وأنعش الاستثمارات ومن ثم انتعش الاقتصاد بدعم من ارتفاع أسعار النفط، أحد مصادر الدخل الرئيسية في روسيا.
كانت نجاحات بريماكوف الاقتصادية تعزز من شعبيته في الأوساط الروسية، لكنها بدأت تمثل مصدراً لقلق يلتسن خلال الأزمة المتعلقة بخطط الناتو للهجوم على حليف موسكو، الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسفيتش الذي كان منشغلاً حينها بعمليات تطهير عرقي في كوسوفو.
حاول بريماكوف إقناع الولايات المتحدة بعدم استخدام القوة ضد ميلوسفيتش، وكان يخطط أن يناقش الأمر مع البيت الأبيض خلال رحلته إلى واشنطن لإجراء مباحثات حول قرض أمريكي جديد. في مارس/ آذار 1999 وبينما كان بريماكوف في طريقه إلى العاصمة الأمريكية تلقى اتصالاً من نائب الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت آل جور يخبره فيه بأن حلف شمال الأطلسي بدأ القصف.
أمر بريماكوف الغاضب قائد طائرته بالعودة إلى موسكو. واحتفت وسائل الإعلام الروسية بذلك القرار واعتبرته إشارة درامية على أن روسيا استعادت استقلالها وأنها لن تقبل الانتهاكات الأمريكية للقانون الدولي في مقابل الحصول على المال. اللغة نفسها استخدمها بريماكوف نفسه في حديثه عن رفض التدخل الغربي في سوريا.
لقد أسس بريماكوف موقفه من الأزمة السورية على اعتبار أن "المقاومة ضد نظام (بشار) الأسد اتسمت ومنذ البداية بطابع عسكري لتنزلق لاحقاً إلى حرب أهلية في واقع الأمر، واستطرد ليقول في حديث صحفي أجراه عام 2012 إن "مواقف روسيا تجاه الأوضاع في سوريا تتسم بطابع موضوعي. فنحن مع اتفاق كل الأطراف. وثمة من يتساءل: لماذا ترفض موسكو التصويت على مشروع القرار الذي عرضته الجامعة العربية والمغرب وحظي بتأييد الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، على مجلس الأمن؟ الأسباب متعددة؛ وواحد منها يتعلق بتحميل مشروع القرار المسؤولية لأحد طرفي الأزمة. إننا نجد فيه توجيه كل الاتهامات إلى القوات الحكومية وضد الأسد شخصياً مع طرح مسألة حتمية رحيله. وذلك تدخل عملي في الشؤون الداخلية على غير أساس".
لكن خلف الحديث عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول على غير أساس كان ثمة حلم راود بريماكوف لسنوات.. أن تمد روسيا نفوذها لمنطقة يعرفها عن ظهر قلب. وقد بدأ بوتين في تحقيق هذا الحلم بنشر النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، لكن مراقبين حذروا من أن ما عدوه "ثمن تسلم مسؤولية محاربة التطرف الذي أنهك الولايات المتحدة".
إلا أن الرئيس بوتين، وعرابه بريماكوف، يدركان، بحسب الصحفي الأمريكي المرموق دايفيد اغناتيوس أن محاربة داعش قضية وجودية لروسيا، التي تملك مجتمعاً إسلامياً كبيراً ومتزايداً.
ويشير أغناتيوس إلى أن تولي روسيا هذا الدور قد يعني "تغيراً جوهرياً في العلاقات بين القوى داخل الشرق الأوسط؛ حيث تسعى روسيا لأن تصبح حامية ليس فقط للرئيس السوري الأسد، وإنما لأوروبا "المتخوفة من الإرهاب واللاجئين وإمدادات الطاقة".