«مشاجرة» قادته لـ«الإخوان» وأسس «اقتصادها».. يوسف ندا من البداية للنهاية
في عامه السابع عشر كان يوسف ندا يجلس في منزله بمدينة الإسكندرية المصرية حين سمع أصواتا لمشاجرة في الشارع الذي يقيم به، فخرج ليشاهدها.
لكنه فوجئ بنزول مجموعة من الأشخاص يرتدون ملابس الكشافة يقومون بفض هذه المشاجرة ويتدخلون للإصلاح بين العائلتين المتنازعتين، وكان هؤلاء الوسطاء هم شباب جماعة الإخوان التي انتمى لها "ندا" بعد أيام معدودة من هذه الواقعة، وفق ما روى في أكثر من مناسبة وحوار أُجري معه فيما بعد.
كانت تلك البداية الدراماتيكية هي مقدمة انضمام يوسف ندا للإخوان التي تدرج في مناصبها التنظيمية إلى أن وصل لمنصب مفوض العلاقات السياسية والدولية، وهو منصب خاص داخل النخبة القيادية للجماعة.
ويتم اختيار المفوض بتكليف مباشر من المرشد العام للجماعة، باعتبار أن هذا الموقع ذو طبيعة خاصة، وظل "ندا" يحظى برمزية كبيرة في أوساط الإخوان إلى أن رحل عن الدنيا، اليوم، عن عمر ناهز الـ93 عاما.
ولد يوسف مصطفى علي ندا في مدينة الإسكندرية، في الـ17 من مايو/أيار عام 1931، ووالدته هي السيدة نعمات أبوالسعود، كان ترتيبه الرابع من بين 11 أخاً رزقت بهم العائلة، وفق ما أورده يوسف ندا ودوجلاس تومسون في كتابيهما "من داخل الإخوان المسلمين.. حقيقة أقوى الجماعات الإسلامية السياسية في العالم"، الذي نشرته دار الشروق المصرية وترجمته للعربية للمرة الأولى عام 2012.
التحق بجماعة الإخوان منذ مراهقته، وذلك في عام 1948، وفق ما ذكره في الكتاب المذكور، بيد أن هناك عددا من الروايات التي راجت عن انضمامه للإخوان قبل هذا التاريخ تحديدا في عام 1938، إذ راجت تلك الأقاويل في الفترة التي كان يتم التدقيق فيها في أنشطة يوسف ندا على خلفية تجميد أمواله وأموال بنك التقوى الذي أنشأه في جزر الباهاما وجرى حظره في خضم الحملة الأمريكية الدولية على الإرهاب عقب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول 2001.
وادعت بعض الروايات أن يوسف ندا شارك في تهريب مفتي القدس أمين الحسيني، وعمل مع جهاز "الجستابو" (أمن الدولة الألماني) في فترة النازية، لكن هذه الرواية نفاها يوسف ندا في حوار سابق له نشر ضمن كتاب "الأب الروحي.. أسرار حياة يوسف ندا المفوض السياسي لجماعة الإخوان"، مضيفا أن عام 1938 لم يكن التحق بجماعة الإخوان، كما أن واقعة هرب أمين الحسيني كانت وهو في عمر الـ13، أي قبل 4 أعوام من انضمامه للإخوان.
والتحق يوسف ندا بمجموعات النظام الخاص المعروفة أيضا بالجهاز السري المسلح لجماعة الإخوان، وشارك في بعض أعمال الجهاز السري في منطقة القناة عام 1951.
وبعد نحو 3 أعوام وقع الصدام بين جماعة الإخوان والرئيس المصري جمال عبدالناصر، على خلفية محاولة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية، وتم على خلفيتها القبض على "يوسف ندا" ودخل السجن الحربي في الفترة من 1954 إلى 1956.
وبعد خروجه من السجن الحربي عاد يوسف ندا لمواصلة أنشطته التجارية، إذ امتلك مصنعا للألبان والجبن وازدهرت تجارته في المرحلة التي سبقت وتلت دخوله السجن، واستكمل دراسته بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية التي تخرج فيها عام 1959.
ثم قرر الخروج من مصر بسبب الأجواء المتوترة بين جماعة الإخوان والنظام المصري، وبالفعل سافر إلى ليبيا أواخر عام 1959 وأوائل عام 1960، وهناك أنشأ سلسلة من المشروعات التجارية والصناعية بدعم من الملك الليبي (السابق) إدريس السنوسي.
وقضى يوسف ندا أعوامه التالية بين ليبيا والنمسا، واستطاع توسيع أنشطته التجارية لتشمل دولا أخرى منها السعودية عن طريق شركة "ندا إنترناشونال"، وجلاسجو، ولخينيشتين وغيرها من الدول، وتاجر في مجموعة من السلع الاستراتيجية منها الحديد والأسمدة والذرة والشعير وزيت الطعام والمواد الغذائية الأخرى، لكن أنجح مشروعاته كانت في الأسمنت ومواد البناء.
وأصبح يوسف ندا بالتعاون مع شركة "شنتمير" الإيطالية المورد الرئيسي للأسمنت في ليبيا ودول غرب أفريقيا، بحسب ما يذكر عن نفسه في كتاب "من داخل الإخوان المسلمين.. حقيقة أقوى الجماعات الإسلامية السياسية في العالم".
بيد أن الانقلاب الذي قاده العقيد الليبي معمر القذافي في الأول من سبتمبر/أيلول 1969، دفع "ندا" المقرب من الملك المخلوع للهرب إلى اليونان مستفيدا من حمله جواز سفر تونسيا منحه له الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الذي سبق له الاتصال بالإخوان أثناء وجوده في مصر قبل توليه الرئاسة التونسية.
وفي السبعينيات والثمانينيات، كان يوسف ندا لا يزال يصعد في سماء المال والأعمال مستفيدا من تجارته العابرة للحدود الوطنية، وشارك في تلك الفترة في تأسيس بنك فيصل الإسلامي، واختير عضوا بمجلس إدارته لكنه استقال منه وأبقى على أسهمه في البنك، وعُدت المشاركة في تأسيس المصرف الإسلامي بداية جديدة ليوسف ندا، الذي فكر في إنشاء بنكه الخاص وهو «بنك التقوى».
بيد أن هناك مرحلة سابقة على إنشائه بنك التقوى، وهي اضطلاعه بمهمة مفوض العلاقات السياسية والخارجية لجماعة الإخوان بتكليف من مرشدها العام في تلك الفترة.
ومع أن الشائع أن يوسف ندا شغل هذا المنصب ولعب أدوارا في الوساطة الخارجية في عدد من الملفات بينها الوساطة بين السعودية وإيران بعد الثورة الإيرانية الخمينية، والوساطة بين اليمن وإريتريا، والوساطة لدى صدام حسين بعد احتلال الكويت في التسعينيات، وغيرها من الأدوار البارزة في مسيرته التنظيمية، إلا أن هناك جزءا لا يشار له في قصة مفوض العلاقات الخارجية، وهو أنه لم يكن الوحيد المكلف بهذه المهمة، فكان هناك أيضا إبراهيم صلاح الذي شغل أيضا نفس المنصب أو الموقع التنظيمي، وكلف بالوساطة في ملفات مماثلة منها العلاقات الإخوانية الإيرانية، وكان اختلاف الرؤى بين "صلاح" و"ندا" سببا في صراع تنظيمي تكتمت عليه الإخوان حتى اللحظة، وسعى كل منهما لأن يحوز دعم قادة بالجماعة من أجل تعزيز موقعه ومكانته في هذا الصراع.
حتى آخر حياته كان إبراهيم صلاح يدعي أن يوسف ندا عزل من منصبه، وأنه تولى بدلا منه، لكن الجماعة لم تصدر أي توضيحات رسمية بهذا الشأن على الإطلاق، ومع ذلك اضطر يوسف ندا أن يبتعد عن الأدوار التنظيمية لفترة بعد أن أدرج اسمه على قائمة الإرهاب الدولية الخاصة بالأمم المتحدة وقائمة الإرهاب الأمريكية لاتهامه بتمويل أنشطة تنظيم القاعدة عن طريق بنك التقوى.
وبنك التقوى كان مشروعا إخوانيا، قدر يوسف ندا في حواره المنشور بكتاب "الأب الروحي" أن رأس ماله بلغ نحو 200 مليون دولار في عام 2001، وهو مبلغ كبير وقتها، لكن بسبب مشاركة مقربين من أسامة بن لادن في هذا البنك جمدت الولايات المتحدة أرصدته، وفي السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2001 اقتحمت وحدات الشرطة بنك التقوى في لوغانو وفيلا يوسف ندا في كامبيوني المجاورة بتهمة تمويل الإرهاب.
وفي نفس التوقيت تقريبا ألقى الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش خطابا في فرجينيا وأعلن أن "التقوى هي جمعية تضم بنوكا وشركات إدارة مالية خارجية ساعدت تنظيم القاعدة في تحويل الأموال إلى مختلف أنحاء العالم"، وأضاف أن هناك "أدلة قوية وموثوقة" على ذلك.
وبعد نحو 8 سنوات تخللتها تحقيقات عديدة جرى رفع اسم يوسف ندا من قوائم الإرهاب الدولية، لكن اسمه بقي مدرجا على قوائم الإرهاب في مصر بنفس التهمة التي لم يرفع اسمه منها سوى عام 2013، حين أصدر الرئيس الأسبق المنتمي لجماعة الإخوان محمد مرسي قرارا جمهوريا بذلك، ثم جاء الرئيس المؤقت عدلي منصور وألغى القرار.
وظل يوسف ندا حتى آخر عمره مدانا في مصر، وأعيد إدراجه مؤخرا في قوائم الإرهاب ضمن 76 قياديا آخرين من الجماعة لمدة 5 سنوات تبدأ من 9 ديسمبر/كانون الأول 2024، بناءً على الطلب رقم 8 لسنة 2024 المقدم من النيابة العامة في القضية رقم 1983 لسنة 2021 حصر أمن الدولة العليا.
ومن ناحية أخرى، ظل يوسف ندا معزولا عن النشاط التنظيمي للإخوان بعد 2013، إذ إن الجماعة عابت عليه أنه انتقد نهجها السياسي ودعوته لها للتراجع عن الصدام مع الحكومة المصرية.
وحاولت جبهة لندن (إبراهيم منير ثم صلاح عبدالحق) أن تُعيده للأضواء مرة أخرى بعد خلافها مع غريمتها التقليدية جبهة إسطنبول منذ أواخر عام 2020، فادعت أنه يؤيدها وأن مفوض العلاقات الخارجية السابق أصبح تابعا لها، لكن وهج يوسف ندا كان قد خفت بالفعل إلى أن انطفئ بموته اليوم.
aXA6IDMuMTQ1LjIwMi42MCA= جزيرة ام اند امز