"النوبة".. حضارة "بلاد الذهب" تخشى زوال "البريق"
"فارق شاسع بين تمسك النوبيين بموروثاتهم الثقافية والاجتماعية والتاريخية من خلال التمركز في مناطق متقاربة وبين مفهوم العزلة".
هناك فارق شاسع بين تمسك النوبيين بموروثاتهم الثقافية والاجتماعية والتاريخية من خلال التمركز في مناطق متقاربة وبين مفهوم العزلة، وبناتنا لا يسمح لهن بالزواج من غير نوبيين للحفاظ على نسلنا".
هكذا بدأ محمد عزمي، رئيس الاتحاد النوبي حديثه، تعليقًا على حالة الجدل التي يعيشها المجتمع النوبي بعد تمرير مجلس النواب المصري للقرار 444، والذي يقضي في مضمونه بتحويل الأراضي في المناطق الحدودية لسيطرة الجيش واعتبارها مناطق عسكرية، الأمر الذي يعني بالضرروة تبخر أحلام النوبيين في العودة لموطنهم الأصلي في أقصى جنوب مصر على الحدود مع السودان .
في ديسمبر/كانون الأول من عام 2014، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارًا جمهوريًا بشأن الأراضي الواقعة في المناطق الحدودية، قضى باعتبارها مناطق عسكرية تابعة للجيش المصري، لتأمين حدود البلاد، وكانت 27 من قرى النوبة من ضمن القرار الذي مرره مجلس النواب.
يشدد "عزمي" على ضرورة الفصل في المعنى بين تمسك النوبيين بالعيش في تجمعات وبين اندماجهم مع سائر فئات المجتمع، فحسبما يرى: "لنا خصوصية لا يفهمها الشعب المصري، ولا نقول هذا بقصد التمييز أو التعالي فنحن العرق السامي الوحيد المتبقي في مصر، وليس عيبًا أن نحافظ على هويتنا المميزة".
ويستطرد عزمي: النوبيون لهم عادات وتقاليد مختلفة عن الصعايدة والعرب هي عادات إفريقية أكثر ومرتبطة بنهر النيل، لذا نحافظ عليها بكل ما أوتينا من قوة، من أهمها أننا لا نزوج بناتنا من خارج النوبة بينما قد يتزوج الرجل "أجروباتية".
ولفت إلى أن "الدستور كفل للنوبيين حقهم في العودة لمناطقهم عقب 10 سنوات، لن نترك أرضنا من أجل الاستمرار في العيش على أراضٍ ملك للدولة لنا منها حق الانتفاع فقط، ينتشر النوبيون في محافظات مصر كلها ويتكيّفون مع جميع الفئات لكن العودة إلى موطننا لا يناقض ذلك بالمرة".
ويبقى التساؤل هنا عن سر تمسك أبناء النوبة بالعودة لأقصى جنوب البلاد، لماذا يصرون على العزلة؟ ولا ينسجمون داخل النسيج المجتمعي؟ وهل بعد كل تلك السنوات لم يحدث أن تكيفوا في المناطق التي تم تهجيرهم إليها قبل عشرات السنين؟ وهل كانت عزلتهم في صالح حماية موروثاتهم أم تهديدا باندثار ثقافتهم؟
عزلة إجبارية
ألفت صالح، محامية وناشطة نوبية، تقول إن: "النوبة أبدًا لم تختر العزلة بل أكرهت عليها، عانينا من التهجير القسري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ونخشى الآن من ضياع حلمنا بالعودة بسبب القرار الأخير"، على الرغم من أنها ترى في اعتزال النوبيين وتمركزهم في جماعات حماية للغتهم وعاداتهم وموروثاتهم التي أوشكت على الاندثار حتى "أصبح الأطفال لا يتحدثون لغتنا".
"صالح" تؤكد هي الأخرى ذلك قائلةً "طريقة تعامل الحكومات المتتالية معنا مريب، لكي أزور بلدتي الأصلية أعلى معابد أبو سمبل، واسمها بلاد النوبة القديمة قسطل وأدندان، أحتاج لتصريح، داخل بلدي أتجول بتصريح".
وبدوره، يرى زيزو جلال، الشاب النوبي الذي تغرب خارج مصر بسبب عدم توفر فرص عمل في مناطق المهجر حسبما يقول، ليؤكد أن "انعزال أبناء النوبة نتج عن التهجير، فنحن نسعى للترابط فيما بيننا للحفاظ على ما تبقى لنا من ثوابتنا وموروثاتنا التاريخية والاجتماعية، نحن بحاجة للعودة لموطننا الأصلي حتى نسترجع هويتنا الحقيقية".
أصل النوبة
وتختلف الاعتقادات بشأن أصل الحضارة النوبية فيقول بعض الباحثين إنها أقدم من الحضارة الفرعونية في حين يعتبرها البعض جزءًا منها، ويذهب آخرون إلى أن النوبيين انحدروا من قبائل غرب السودان، وانتقلوا لأعالي النيل واستوطنوه، وينسبهم البعض الأخير لأصول زنجية لتشابه لون البشرة وربما بعض اللهجات.
لكن المؤكد رغم كل هذا أن النوبيين عاصروا مصر الفرعونية والمسيحية والإسلامية، وآثارهم وشخصياتهم الشهيرة ليست بالخفية على أحد، فقديما وحّد مينا النوبي قطري مصر، وحديثًا بزغ نجم أحمد منيب ومحمد منير النوبيين في الفن .
ومن الثابت تاريخيًا، أن أهالي 68 قرية نوبية تم تهجيرهم على 4 مراحل بدأت في العام 1902 مع بدء العمل في خزان أسوان، والذي تسبب في غرق 10 قرى نوبية انتقل أهلها طواعية ودون مقابل من الدولة إلى البر الغربي ومحافظات مصر المختلفة، وفي العام 1912 حدثت التعلية الأولى للخزان، وغرقت بسبب ذلك 8 قرى لينتقل أهلها طواعية أيضًأ، وبعد التعلية الثانية في العام 1933 غرقت 10 قرى أخرى، ليتوزع أهلها على محافظات الجمهورية دون جهد أو طلب من الحكومة كذلك .
لكن في العام 1964 تم تهجير النوبيين من أجل إنشاء السد العالي، ونقلوا خلف السد حيث هضبة كوم أمبو، ونقلت أكثر من 40 قرية بنفس أسمائها القديمة، وأسست لها الخدمات الصحية والتعليمية، ورغم أن ذلك لم يكن متوفرًا لهم في بلاد النوبة إلا أن هؤلاء يتمسكون بحقهم في الرجوع ويرفضون القرار 444 ويعتبرونه محاولة من الحكومة لتذويبهم داخل المجتمع، والقضاء تمامًا على ما تبقى من تاريخهم الذي يعتزون به .
بلاد الذهب
ومن المعروف أن تسمية "النوبة" تعود إلى كلمة "نوب" أو "نوبو" وهي كلمة عربية الأصل استخدمت في قبائل اليمن بمعنى اللهب الأصفر وقصد بها الذهب وأطلقت على بلاد النوبة نظرًا لتواجد مناجم الذهب بها، وكان لها تسميات أخرى فأطلق عليها الإغريق بلاد إثيوبيا أي ذوي الوجوه المحترقة نظرًا لبشرتهم السوداء، عرفت أيضًا بالواوات وتاسيتي بمعنى أرض السهام، كما أطلق عليها تسميات مثل "دودي، كاتنيوس، بلاد مازوي، ارتيت" على مدار التاريخ .
aXA6IDE4LjIyNy40OC4xMzEg جزيرة ام اند امز