كنت قد هيأت نفسى لأواصل اليوم ما بدأته يوم الأربعاء الماضى عن كراهية المصريين لتاريخهم ولأنفسهم
كنت قد هيأت نفسى لأواصل اليوم ما بدأته يوم الأربعاء الماضى عن كراهية المصريين لتاريخهم ولأنفسهم، لكنى شاركت فى لقاء دعا له السيد رئيس الجمهورية جماعة من المشتغلين بالثقافة والإعلام واستهله بهذا السؤال الخطير الذى يبدو لى أنه فكر فيه طويلا واختاره بعناية: هل نحن الآن فى عصر انحطاط؟ أم نحن فى عصر ازدهار؟
وقد اجتهدت من ناحيتى فى الاجابة على هذا السؤال فى الكلمة التى شاركت بها فى اللقاء، وسوف أقدمها من جديد إن لم أستطع فى هذه المقالة، ففى التى تليها، مبتدئا بمقدمة ضرورية أشرح فيها هذا السؤال.
لماذا هو سؤال خطير؟ هو سؤال خطير لأنه سؤال صريح نواجه به أنفسنا ونعترف بما نحن فيه دون أن نخاف أو نتهرب، وهو سؤال خطير لأنه سؤال جوهرى يفتح المجال لحوار واسع يتناول كل شئ. الحاضر والماضى والمستقبل، ما كنا فيه وما أصبحنا عليه وما يمكن أن نصير إليه. ما نعانيه فى حياتنا كل يوم وما نحتاج له ونحلم به.
وهو سؤال خطير لأنه يطرح فى وقته وقد تفجرت المشكلات واشتدت الأزمات وأحاطت بنا وسدت علينا الطرق. الارهاب، والبطالة، والاقتصاد المختنق، والعدوان على الحريات، واختلاط القيم، واضطراب الموازين, والمتاجرة بالدين، وما تعرضت له سمعتنا فى الخارج، والثورة المضادة التى تعمل ضد الثورتين. والسؤال بهذه الكيفية مطروح على الجميع، على المثقفين والساسة ورجال الدولة والعلماء وأصحاب الخبرة فى المجالات المختلفة وعلى كل مواطن يعرف ماله وما عليه، لأنه سؤال جامع ينظر للواقع باعتباره كيانا واحدا وليس مجالات منفصلة أو اختصاصات متباعدة نواجهها واحدة واحدة دون أن نلتفت لما بينها من علاقات وتداخلات تنتقل بها العدوى ويؤثر كل مجال فى غيره. تدهور التعليم يعطل التنمية، والفساد الخلقى يزعزع الشعور بالثقة، واختلال الأمن حجة تبرر العدوان الدائم على الحريات، وتحجر الفكر الدينى يعيدنا لعصور الظلام, وخلط الدين بالسياسة يفسد كل شئ.
ولاشك فى أن كل مجال من هذه المجالات له حدوده ومشكلاته التى تحتاج فى حلها لخبراء مختصين، لكن دون أن نفصله تماما أو نعزله عن بقية المجالات، وإلا عجزنا عن الرؤية فلم نعالج من المشكلة التى تواجهنا إلا ما ظهر منها، وتركنا ما خفى يفعل فعله المدمر من جديد.
هذه النظرة الجزئية كانت هى المفضلة لدى حكامنا عامة وكانت هى السائدة المعمول بها طوال العقود الستة الماضية التى انفرد فيها رأس النظام بالسلطة. فهو وحده الذى يأمر وينهى، ويضع الخطة ويتخذ القرار، وما على الآخرين إلا أن يكونوا منفذين كل فى مجاله باعتباره خبيرا أو موظفا يسمع ويطيع وينفذ دون أن تكون له رؤية يراها أو سياسة يشارك فى وضعها. لأننا كما كان يرى الذين تولوا السلطة فى العقود الماضية لانحتاج للفلسفة ولا نحتاج للنظريات، وإنما نحتاج للحلول العملية، أى للمسكنات التى تخفف من الألم لكنها لاتتعرض للداء، ولاتبحث عن أسبابه، ولا تتنبأ بما سوف يكون من أمره فى المستقبل البعيد أو القريب.
وبما أننا نحتاج للحلول العملية وحدها ـ فنحن ـ أقصد الذين فى السلطة ـ لا نحتاج للمنظرين ولا نحتاج للمثقفين والعلماء وأصحاب الرأى، لأن صاحب الرأى إذا كان من حقه أن يفكر فمن حقه أن يخالف وأن ينقد ويعترض. ونحن ـ أى أصحاب السلطة ـ لانحتاج للنقاد ولا نحتاج للمعارضين. نحتاج فقط للموافقين والمنافقين الذين لايتفلسفون وإنما يفعلون ما يؤمرون به ثم يحصلون على أجورهم وينصرفون.
هؤلاء الحكام المستبدون بنظرتهم الجزئية الضيقة للأشياء وعدائهم المستحكم للثقافة وخوفهم من النقد والمعارضة جروا علينا خلال العقود الستة الماضية ما جروه من نكبات وهزائم. فهل نحن الآن على عتبة عهد جديد نخرج فيه من حكم الاستبداد ونستعيد حقنا الكامل فى الديمقراطية ونستعيد بالتالى قدرتنا على أن نرى الواقع رؤية شاملة نضع بها أيدينا على المشكلات الأساسية التى تؤثر فيه ككل وعلى المشكلات الفرعية الخاصة بكل مجال ونعرف لكل مشكلة حلها ولكل داء دواءه؟
لكن السؤال الذى طرحه علينا السيد الرئيس لايفتح المجال أمام رؤية شاملة للواقع فحسب، وإنما يطالبنا كذلك بمعيار نحكم به على هذا الواقع ونقيس به وضعنا فيه: انحطاط أم ازدهار؟
لم يستخدم مفردات كابحة تفرض علينا حدودا لا نتخطاها فى الحكم على الواقع الذى نعيشه ويضطلع هو بالمسئولية الأولى فيه. لم يقل مثلا: تراجع أم تقدم بطئ؟ ولم يتحدث عن أزمة خانقة أو مواجهة صعبة، وإنما فتح أمامنا المجال لنتحرك فيه من أقصاه إلى أقصاه دون شعور بالحرج: انحطاط أم ازدهار؟
صحيح أن كلمة الانحطاط فى المجال الذى استخدمت فيه لاتحمل المعنى الذى تحمله حين نستخدمها فى لغتنا اليومية. الانحطاط فى اللغة اليومية سب وشتم. أما فى الحديث عن الواقع والحكم على ما فيه فالمعنى يختلف. حين نتحدث عن حط الأحمال وحط الرحال نخبر ونقرر. وحين نتحدث عن عصور الانحطاط فى التاريخ نشخص ونقيم. ولاشك أن الكلمة فى كل الأحوال لها معنى سلبى يثير الشعور بالألم والأسف. لكنها تتخذ طابعا موضوعيا يخفف من وقعها بعض الشىء حين نقارن بين وضعين لكيان واحد بلغ فى أحدهما الذروة وهبط فى الوضع الآخر إلى القرار.
نعرف مثلا أن القرون الخمسة الهجرية الأولى كانت بالنسبة للثقافة العربية عصر تفتح وازدهار تلاه عصر أفول وانحطاط. ونحن فى هذا الحكم نستند إلى الوثائق المحفوظة وإلى الواقع الملموس المدروس. فالازدهار ماثل فى الابداعات الأدبية والفنية والاجتهادات الفكرية والعلمية، وفيما كان بين الثقافة والواقع من تجاوب انتفعت به الثقافة وتطور المجتمع. والانحطاط أيضا ماثل وملموس. فقد توقف الابداع، وأغلق باب الاجتهاد، وحل النقل والتقليد محل العقل والتجديد، وانهارت النظم، وتفككت الدول، وتخلف المجتمع وانعزل عن العالم، وخرج من التاريخ.
هكذا وقف ابن خلدون فى القرن الرابع عشر الميلادى يرى كيف تدهور الوجود العربى فى الأندلس وفى غير الأندلس، وكيف تصارعت القبائل والعشائر، والعرب والبربر، والفقهاء والفلاسفة فانهارت الدول وخربت الأمصار. ووقف ادوار جيبون أمام التاريخ الرومانى يتحدث عن انهيار الحضارة وسقوط الامبراطورية.
وهكذا وقف الجبرتى يتحدث عن حملة بونابرت وعن العلماء الذين جاءوا معه وما أنجزوا من أعمال واستحدثوا من «أمور لاتسعها عقول أمثالنا»! وهو يقارن بين ما وجده عند الفرنسيين من تقدم علمى ورقى أخلاقى وما صرنا نحن إليه من تدهور وانحطاط فيقول «إن جميع معاملات الكفار سالمة من الغش والنقص بخلاف معاملات المسلمين»!
وسوف أفترض أن الجبرتى كان حاضرا لقاءنا مع الرئيس وكان مطالبا بأن يجيب عن السؤال الذى طرحه الرئيس علينا فماذا يقول؟ وهل سيختلف كلامه الآن عما كتبه منذ أكثر من قرنين؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة