رسائل الأدباء.. فسحة للتلصص على عوالم ذاتية
تأخذ رسائل الأدباء طابعًا خاصًا، وتقدم عبارات خرجت من فردانيتها إلى العام بما تكرسه من قرب إنساني وصنعة أدبية.
يقول لسان العرب في معنى كلمة "رسل" هي القطيع من كل شيء، الرسالة إذن هي "قطيع من الكلام" له وجهة ومسار، الرسالة لغة واصطلاحًا هي الكلام المعني به شخص بعينه، فإذا كانت الرسائل بين أدباء أي صناع الكلام أخذت طابعًا خاصًا، لم تعد مجرد كلمات لإيصال معلومة، بل نسق جمالي لمعنى، صياغة المشاعر في عبارات خرجت من فردانيتها إلى العام بما تكرسه من قرب إنساني وصنعة أدبية، قراءتها تحمل متعتين: التلصص على نفسية كاتبها، ومحاولة فهم أدواته، وعبر التاريخ الإنساني كانت مراسلات الأدباء نوعًا شديد الخصوصية من الأدب، هي "كفاح ضد الغربة" كما قال جارودي على كتابة كافكا..
مي زيادة وجبران خليل جبران
لم تحظ مراسلات في الثقافة العربية ما حظيت به هذه التي كانت بين جبران ومي، قصة الحب التي نشأت ونمت على الورق، مي زيادة بعد أن صارت صاحبة أشهر صالون ثقافي أدبي في مصر ببدايات القرن، وقتها كانت حضور المرأة في الساحة الأدبية أمرًا جديدًا، ولم يكن مر بعد على كتابي قاسم أمين سنوات قليلة، ليجد الوسط الأدبي نفسه ينظر إلى الفتاة الرقيقة واسعة الثقافة وهي تجمع رموزه الكبار حولها في بيتها الذي تحول إلى ملتقى ثابت..
وسط كل هذا الضجيج، لم تحب مي زيادة واحدًا من مريدي صالونها الثقافي، بل طارت مشاعرها تجاه الأديب اللبناني المهاجر إلى الأرض الجديدة "أمريكا" بعد قراءتها لقصة "الأجنحة المتكسرة"، وهناك بادلها جبران خليل جبران الحب رغم علاقاته الشهيرة..
تقول مي :"جبران.. لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب، إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر... ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب، أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير، الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير، كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا؟ وكيف أفرط فيه؟ لا أدري".
ويرد جبران: "أنا أعلم أن القليل من الحب لا يرضيك، كما أعلم أن القليل في الحب لا يرضيني، أنت وأنا لا ولن نرضى بالقليل، نحن نريد الكثير، نحن نريد كل شيء، نحن نريد الكمال، أقول: يا ماري، إن في الإرادة الحصول، فإذا كانت إرادتنا ظلًا من أظلال الله، فسوف نحصل بدون شك على نور من أنوار الله".
غسان كنفاني وغادة السمان
افتتح القرن العشرين أيامه بالعلاقة الكتابية بين مي وجبران، وانتصف الشهر بحب غسان كنفاني وغادة السمان، التي تحولت في المخيلة العربية إلى قطع من الكلمات تحولت إلى شغف لدى قرائها، الأديب المشغول بقضية بلاده، همه الخاص هو الانغماس في الهم العام، ابن لحظته القومية، وقد تحول إلى عاشق لفتاة تعرف عليها في القاهرة هي غادة السمان، تحولت غادة إلى شغفه الخاص بعيدًا عن الهم السياسي والأدبي، جعلت من حبهما "أيقونة" خاصة، وأن غسان كنفاني في الرسائل لا يحمل سيف التحرر الوطني، بل قلبه وحده، دونما حواجز بين مسيحي ومسلمة، هو يسلمها روحه: "أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك، وأستطيع أخذك بمقدار ما ترفضين ذلك، وأنت ترفضين ذلك بمقدار ما تريدين الاحتفاظ بنا معًا، وأنا وأنت نريد أن نظل معًا بمقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم".
وتقول غادة: "أي هرب ما دامت الأشياء تسكننا وما دمنا حين نرحل هربًا منها نجد أنفسنا معًا وجهًا لوجد".
عام 1993 أحدثت غادة ضجة كبرى في الأوساط الأدبية والسياسية عندما نشرت مجموعة رسائل عاطفية كتبها لها غسان كنفاني في الستينات من القرن العشرين، حيث جمعتهما علاقة عاطفية لم تكن سرًّا آنذاك. واتهمت بسبب ذلك أن نشرها هذا هو جزء من المؤامرة على القضية الفلسطينية التي كانت تواجه مأزق أوسلو وقت النشر.
محمود درويش وسيمح القاسم
لهذه الرسائل فرادتها، فهي من الرسائل النادرة في الثقافة العربية التي لم تكن بين عاشقين، كما أنها لم تتحول إلى كتاب بعد وفاة أصحابها أو واحد منهم، بل كانت بتدبير من الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم في تحويل هذه الرسائل إلى كتاب، أو كما قال درويش في واحدة من رسائله: "لن نخذل أحدًا وسنقلب التقاليد، فمن عادة الناشرين أو الورثة أن يجمعوها في كتاب، لكن هنا نصمم الكتاب ونضع له الرسائل، لعبتنا مكشوفة، سنعلق سيرتنا على السطوح، أو نواري الخجل من كتابة المذكرات في كتابة الرسائل".
وهو ما شاكسه به سيمح القاسم قائلًا: "مسكين ساعي البريد المتنقل بيننا مثل رقاص الساعة". ويضيف في رسالة أخرى، "أود تنبيهك إلى أننا وحيدون في حديقة الأسي والتراشق بالياسمين هذه، التي امتشقناها من أضلعنا مثل آدم في طفرته الإبداعية الرائعة، إن حشدًا كبيرًا من الناس يزيح الستائر ويطل من النوافذ المحيطة بنا منتظرًا ساعي بريدنا الخاص، ومن المدهش أن بعض القراء يكتشفون في رسائلنا ويستشفون منها أمورًا لا أشك في أنها لم تخطر لنا علي بال، ولا بأس في ذلك".
بول أوستر وجي إم كوتزي
في عام 2013، صدر كتاب بعنوان "هنا والآن" الذي ضم بين دفتيه الرسائل المتبادلة بين حاصد نوبل الجنوب إفريقي كوتزي والأديب الأمريكي الشهير بول أوستر، يمكن من خلالها أن نستكشف أسلوب كل منهما وشخصه؛ كوتزي الهادي المتأمل في مواجهة أوستر خفيف الظل حاد الملاحظة.
الصديقان، كلاهما كانا في الستين عندما بدءا بكتابة الرسائل، وكلاهما يحبان مشاهدة الألعاب الرياضية. أوستر كتب عدة مرات وبشكل مؤثر عن حبه للعبة البيسبول، كما وضح ذلك لكوتزي، حيث ذكر بأنه حتى أفضل الفرق يجب أن نتوقع خسارتها مع تردد كبير، وتعلم أن يفعل ذلك بلياقة. كوتزي، بدوره، ناقش ذلك بقوله: "اللاعبون يركضون بسرعة ويركلون الكرة بعيدًا، ليس على أمل أن ترغب بالزواج منهم فتيات جميلات يحملن جينات جيدة، ولكن على أمل أن يُعجب بهم أقرانهم، اللاعبون الآخرون المستعبدون معهم بإعجاب متبادل". ويضيف لاحقًا بأنه لا يحب "أشكال الرياضة التي تكون نموذجًا يقترب من الحرب، حيث كل ما يهم فيها هو الفوز والفوز يصبح مسألة حياة أو موت- الرياضة تفتقر إلى الرحمة، والحرب تفتقر إلى الرحمة. هناك تصور مثالي في عقلي- أو ربما من تدبير عقلي- من اليابان وفيه يمتنع أحدهم من إلحاق الهزيمة بالخصم؛ لأن هناك بعض الخجل في الهزيمة، وبالتالي بعض الخجل في فرض الهزيمة".
الجميل في رسائل الصديقين الكبيرين أنها تخففت من موروث الرسائل الأدبية، هنا ثمة مساحة من الإنسانية كبيرة في تعليقاتهما وجدالاتهما، أبعد من مجرد الصياغة اللطيفة.
aXA6IDMuMTM3LjIxOC4xNzYg جزيرة ام اند امز