"أنشودة الفرح" لربيع مروة.. ما ابتدأ في ميونيخ وانتهى في تدمر
باتت أعمال المخرج والممثل المسرحي اللبناني ربيع مروة، بعد تجارب نظرية وثقافية، ورحلة في فنون الفيديو والتجهيز والتصوير، مكرّسة للمسرح.
في كل مرة، يشكل العرض المسرحي الجديد، للمخرج والممثل اللبناني ربيع مروة، حدثاً ينتظره متابعو الفنون في بيروت، فمنذ بيانه عام 1997 الذي أعلن فيه ربيع مروة افتراقه عن مسرح الحكواتي (روجيه عساف) وقطيعته مع المسرح "الحداثوي"، بدأت أعماله كمسرح مضاد، أو ضد مسرحي، تتوالى كضربات قاتلة للمنصة المسرحية، منفتحاً بلا ضفاف على عروض تتقصد تمويه هويتها، وتتعمد اللاتصنيف الفني، مخترقاً حتى النسق الذي رسا عليه "المسرح التجريبي"، المتحول في العقد الأخير إلى بديهيات وتقاليد وسلطة.
باتت أعمال مروة -بعد تجارب نظرية وثقافية، ورحلة في فنون الفيديو والتجهيز والتصوير، وخبرة في العمل التلفزيوني التقني- مكرّسة للمسرح، لكن تحت عنوان "استحالة المسرح"، إنها أعمال تشكل التقاء لتقنيات وأشكال تعبير واقتراحات فنية، كما لو أنها اجتماع افتراضي ليس للفنون المتباعدة وحسب، بل لأدواتها كلها، وهذا إذ يتم، فليس من أجل تظهيرها بل طلباً لـ"تشبيحها"، فكل أداة تقنية وكل شكل فني وكل اقتراح تعبيري يصبح معرّضاً للخيانة.
الأهم في لعبة ربيع مروة لا يكمن في فعل "التجاور" العريض للأساليب والتقنيات، بل يكمن في إقصاء الشرط الدرامي للعرض، بهذا المعنى تتحوّل المنصة (وحتى القاعة كلها) إلى ورشة للاختبار، واستفزازاً للحدود. إنه امتحان قاس لقدرة "المسرح" على الاحتمال، كأن يتحول العرض كله إلى شبهة محاضرة أدائية.
ضمن مهرجان "أشغال داخلية 7"، قدم مروة عرضه الجديد "أنشودة الفرح"، في مسرح "دوار الشمس" ببيروت يومي 18 و19 تشرين الثاني الحالي، وكالعادة، كان الجمهور محتشداً عند المدخل، وهذا ما أجبر إدارة المهرجان على الإعلان عن تقديم عرض ثالث للمسرحية، في الليلة الثانية، إرضاء لكثافة الحضور.
ثيمة العرض تتمحور حول صورتين، صورة الفدائيين الفلسطينيين الملثمين بكوفياتهم التقليدية، كما راجت في أواخر الستينات والسبعينات، وصورة المسلح المقنّع على شرفة القرية الأولمبية في ميونيخ 1972، أي صورة "الإرهابي" الذي يحتجز الرهائن، هاتان الصورتان اللتان صنعناهما لأنفسنا، بقدر ما أن العالم صنعهما لنا، وبتنا أسراهما منذ ذلك الحين، فالانتقال من "الرومانسية الثورية" إلى العنف المنظم، العنف السياسي الذي يتوسل الإرهاب، ويتوسل معه لفت انتباه العالم ووسائل الإعلام إلى "القضية".. ابتدأ على ما يبدو في تلك اللحظة، فجر الخامس من أيلول عام 1972.
توقيت العرض وموضوعه أخذانا فوراً إلى عقد صلة مباشرة مع ما نحياه اليوم، التفجيرات الانتحارية في حيّ برج البراجنة بضاحية بيروت الجنوبية، القريبة من مكان العرض، المجزرة الباريسية متعددة الأهداف، التي تركنا صورها التلفزيونية للتو، قبل الخروج من منازلنا.. بل أننا رحنا ننتبه إلى تاريخ كامل متصل الحلقات يعيدنا إلى أيلول – سبتمبر 2001 وما قبله، تاريخ من الانزلاق العنيد نحو تكريس صورة وحيدة عن أنفسنا، نصنعها نحن ويتبناها العالم، من رحم "عملية ميونيخ" تناسلت تلك السيرة المرعبة، ولا يفعل مروة سوى البحث عن رواية تلك الحادثة، فيكتشف أن ثمة رواية ألمانية وأخرى إسرائيلية، وتترسخ الروايتان في وثائق رسمية وتقارير استخباراتية وتحقيقات صحافية استقصائية معمقة، كما في الأفلام الدرامية (آخرها فيلم ستيفن سبيلبرغ "ميونخ")، لكن ما من رواية فلسطينية أو عربية كاملة، ليس هناك سوى تلك الرواية الناقصة التي باح بها "أبو داوود" في إحدى المقابلات التلفزيونية، بوصفه المخطِّط للعملية.
مسار العرض يقدم كل ما يمكن من أساليب السرد المسرحي وأدواته، شرائط الفيديووالصورة الفوتوغرافية وأوراق الأرشيف والنصوص المكتوبة، طارحاً السؤال الجارح: "لماذا لا توجد رواية فلسطينية لما حدث في ميونخ؟".. هذا بالضبط ما سيشكل انعطافة في العرض، إذ سيتحول إلى سرد للجهد الذي بذله فريق العمل في البحث الإستقصائي عن كل ما يتعلق بـ"عملية ميونخ" وما حدث بعدها، سيكشف لنا مثلاً اللائحة التي قدمها الخاطفون، وثيقة بقائمة تضمّ أسماء الـ 236 فلسطينيًّا المطلوب تحريرهم من السجون لمبادلتهم بالرهائن الإسرائيليين، لكن المفارقة العميقة أن معظم الأسماء الواردة في الوثيقة غير مقروءة، لماذا يستحيل قراءة أسماء الفلسطينيين؟ كأن قدر الفلسطيني أن يخسر اسمه، أي أن ينعدم وجوده!!
يرتكز عرض "أنشودة الفرح" على فعل مشهدي سيظل مؤجلاً حتى نهاية العرض، يتم تنبيه الجمهور منذ البداية أن الفرقة بصدد تفجير حقيقي لسرير، نرى عبر شاشة الفيديو الاختبارات التي أجرتها الفرقة لتفجير سرير على نحو آمن، كما يتم تنبيهنا لقوة لمعان الانفجار وقوة صوته، لماذا تفجير السرير؟ ما علاقته بحكاية العرض؟ هل لأن الفدائيين الفلسطينيين اقتحموا غرف نوم الفريق الرياضي الإسرائيلي في أولمبياد ميونيخ؟ هل لأن "أبو داوود" المسؤول عن العملية هو وحده الذي مات موتاً طبيعياً في سريره على عكس سائر رفاقه؟ هل لأن الحلم الفلسطيني تحول كابوساً مميتاً وقاتلاً؟
ترك مروة لنا حرية التأويل، لكن "التهديد" بالتفجير طوال مدة العرض، جعلنا هكذا مستنفرين، مشدودي الأعصاب، طالما أن مخيلتنا كانت لا تزال تستحضر في تلك اللحظة، الحدث المروع في المسرح الباريسي، وهذا التماهي التلقائي جعلنا متوترين ومتوجسين، كأن العرض نفسه سيتحول إلى فاجعة.
تصل المسرحية إلى ذروتها في فصلها الأخير، لن نرى شيئاً هذه المرة، سيروي مروة المشهد شفاهية، مغيباً عن قصد شريط الفيديو الذي بثه "داعش" عما جرى في تدمر، عشرون طفلاً يقفون حاملين المسدسات فوق رؤوس عشرين رجلاً، ثم يبدأ العد: واحد..اثنان.. ثلاثة، ثم إطلاق النار.
المشهد الداعشي هو مسرحنا الأخير، وصورتنا التي نصنعها وحدنا هذه المرة، ليتفرج عليها العالم.
(*)"أنشودة الفرح" من إخراج ربيع مروة، وكتبه بالاشتراك مع منال خضر، أداء: منال خضر وربيع مروة ولينا مجدلاني, وهو من فعاليات مهرجان "أشغال داخلية 7" الذي تنظمه جمعية "أشكال ألوان".
aXA6IDE4LjIyNi4yMDAuMTgwIA==
جزيرة ام اند امز