نحن نموذج متقن لفن إضاعة الفرص وحرق الطاقة والجهد في الوصول من النقطة (أ) إلي النقطة (ب)
نحن نموذج متقن لفن إضاعة الفرص وحرق الطاقة والجهد في الوصول من النقطة (أ) إلي النقطة (ب) دون أن نسلك خطاً مستقيما، وتكون النتيجة هي خسارة قضايا عادلة، النموذج المصري يكرر نفسه بامتياز في حوادث ومواقف متكررة وتتصرف الدولة، للأسف، من خلال مؤسساتها وهيئاتها وأجهزتها، بطريقة واحدة تقريبا، والقاسم المشترك في قضايا عديدة هو ضعف الأداء وقلة المهنية والكفاءة وغياب الاحترافية اللازمة للتعامل مع قضايا ليست هينة، وكثير منها اليوم يتصل بعلاقاتنا في الإقليم أو في علاقاتنا الدولية بشكل عام. البعض يصر علي التصرف في قضايا عادلة تماما بطريقة «يكاد المريب يقول خذوني» أو أن «علي رأس الحكومة بطحة».. أو بالمعني الدارج في اللغة العامية المصرية «هناك من يمسك عليها ذلة...»..
لو عدنا إلي التاريخ فسنجد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سعي منذ البداية إلي أن يعيد الثقة إلي المؤسسات، ويحثها علي القيام بأدوارها المطلوبة، وأن تترجم ما وقف من أجله في ثورة 30 يونيو إلي واقع حقيقي، تهب فيه المؤسسات لتحمل المسئولية، وتحمي كيان ومصالح الدولة بأداء جديد مختلف عن الأنظمة السابقة التي غرقت في حسابات ومصالح ضيقة لم تجن من ورائها الدولة سوي حصاد باهت لا يرقي إلي تطلعات المواطنين، وهي ظاهرة من الظواهر التي يجب أن تتغير في فكر السلطة في مصر.
مظاهر الأداء الفقير في التعامل مع الأزمات والإعلانات الرسمية تتشابه تقريبا، لو نظرنا إلي قضية ريجيني، وقضية اختطاف الطائرة المصرية، وقضية الجزيرتين السعوديتين، فسنجد عيوبا قاتلة تصيب صورة السلطة السياسية في سمعتها، وتجعلها فريسة للشائعات، وفي كل مرة يخرج الرئيس بنفسه لشرح وتفسير ما جري دون أن يشير أحدهم إلي العطب المزمن في دولاب عمل الدولة، المتمثل في غياب رؤية المعاونين وارتباكهم في وقت الأزمة، لأنهم غير مؤهلين للتعامل مع السيناريوهات المختلفة، والأهم هو عدم تشرب مؤسسات وأفراد مفاهيم تحمل المسئولية عن الممارسات والسياسات، التي يمكن أن تشكل حرجا بالغا للسلطة لو تركت للطريقة العشوائية في إدارة الملفات المهمة. علي سبيل المثال، كانت قضية خطف الطائرة إلي قبرص مجرد عينة علي عشوائية بالية، فكيف نترك طاقم الطائرة يتحدث بلا ضابط أو رابط إلي وسائل الإعلام في الداخل والخارج دون أن يترك شيئا لجهات التحقيق أو دون أن يراعي التزامات وضوابط الوظيفة التي يفترض أن هناك قواعد تنظمها. وتلك مجرد عينة مثلما قلت من حالة انفلات عام، هناك أيضا شكاوي من مسئولين بعدم تنسيق رؤساء أجهزة ومؤسسات «بدعوي عدم التدخل في شئونهم» في قضايا تتطلب إعلان موقف مصري في قضية ما يستلزم التعرف علي جميع جوانبها، وهناك من يصر علي التعامل علي طريقة مبارك (سياسة الصدمة) أو اتركوهم يضربوا دماغهم في الحائط!
أتفهم أن يقول الرئيس السيسي أن هناك أمورا يجب ألا تخرج إلي العلن وقال في حديثه مع قوي المجتمع المختلفة أمس الأول: «احنا مفرطناش في حق لينا وأدينا حق الناس لهم، مصر لم تفرط أبدا في ذرة رمل من حقوقها وإعطائها للآخرين»، ومضي شارحا إن الإشكالية التي تقابلنا في هذا الموضوع كشعب ورأي عام أن هناك مسافة كبيرة جدا بين سياق الدولة في التعامل مع قضاياها والسياق الفردي في تناول الموضوع، مشيرا إلي أنه لم يتم تداول موضوع المراسلات بين البلدين حتي لا نؤذي الرأي العام في البلدين.
وأتفهم قوله: «لو كنا قد أعلنا منذ 8 شهور عن هذه القضية كان سيترتب علي ذلك تداعيات علي العلاقات المصرية السعودية وأخذت الضربة في صدري»، مشيرا إلي أنه لو كان قد تم الإعلان في حينها كان سيتم الدخول في السياق السائد حاليا وكانت طريقتنا في التعامل ستؤذينا وتضعف موقفنا. وقال الرئيس بوضوح أمس الأول أن اللجان الفنية المتخصصة عقدت 11 جلسة وتساءل: «هل كل من في وزارة الخارجية والمخابرات والجيش أشخاص غير وطنيين يرغبون في بيع بلدهم، لا يمكن أن نشكك بهذا الشكل دول بلدكم وناسكم إذا كنتم بتتشككوا فيهم يبقي ناقص مين في البلد.. خلوا بالكم أنتم تتحدثون بنسق الفرد وأنا أتحدث بنسق الدولة بكل ما تعنيه هذه الكلمة».
كان الرئيس محقا تماما في عتابه بعد كل ما ناله
ونال الدولة من نقد خارج عن المألوف علي الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي ..
..................
ما لا أستوعبه هو عدم إعداد الرأي العام لمعرفة الحقائق وتمهيد الأرضية للإعلان وهي ليست مهمة رئيس البلاد بالدرجة الأولي ولكنها مسئولية المؤسسات التي كان عليها تهيئة الرأي العام بالاتفاق مع مؤسسة الحكم. الإعلان المباغت أحدث صدمة في أوساط الرأي العام نتيجة غموض القصة وعدم وجودها في الإعلام من قبل وملابسات زيارة خادم الحرمين وتفاصيل أخري لا مجال لسردها. فلو كنا نعمل بروح الفريق ما حدث كل الصخب الذي تتوجه سهامه جميعها إلي مقام الرئيس، فلا يمكن اعفاء من بيدهم تقديم المشورة من تبعات الإعلان المفاجئ أو توقيته. وكانت السقطة الكبري في إعلامنا، فلا أحد يملك معلومة ولا أحد يبذل مجهودا حقيقيا في الوصول إليها .. مجرد ضجيج علي الشاشات لساعات طويلة وخلط بين دور الساسة ودور الإعلام يسيء إلي وسائل الإعلام ويقدم إعلاميينا في صورة باهتة لا تليق، فلا أحد منهم يبحث وينقب عن المعلومات الحقيقية، وهناك لهفة علي المعلومات الجاهزة دون تدقيق أو تمحيص، فكانت النتيجة أوراقا متناثرة علي هذه الفضائية أو تلك. كما انجرف البعض، بمشاعر غاضبة حقيقية أو مسيسة، إلي مساحات من التخوين ونزع الوطنية وهي مساحة لا تليق بالمصريين، فكلنا وطنيون والمسألة لا تتعلق بالخيانة ولكن بالجهل الذي يبدو أحياناً متغطرسا يسهم في صنع خبر وفتنة.
فى قضية الجزيرتين
قوة العلاقات بين مصر والسعودية في فهم الطرفين، أن المصالح الواحدة تقربنا أكثر مما تفرقنا، وهو المنهج الذي حافظ علي تلك العلاقات من تقلبات وأنواء كثيرة منذ الخمسينيات والستينيات، ولم يترك الخلافات في بعض القضايا توسع من مساحة الشقاق، إنما وضع الكثيرمن الأمور في نصابها كان أسلوبا رزينا في إدارة تلك العلاقات، رغم تغير الحكام وتقلب الأمزجة في حقب مختلفة. لم تمر مصر بأزمة إلا وكانت السعودية معها..السعودية لديها ما يكفيها من أراض وثروات، وغير طامعة في أراضي مصر بل تدعم مصر بلا حدود للخروج من أزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي تسبب فيها نظام مبارك والإخوان. الجزيرتان سعوديتان وفقا للشواهد التاريخية والوثائق التي نشرتها الحكومة المصرية ومنها: خطاب الملك فاروق إلي عبدالعزيز بطلب وضعهما تحت السيادة المصرية لمنع إسرائيل من المرور في خليج العقبة، وخطاب الملك عبدالعزيز بوضع الجزيرتين تحت السيادة المصرية سنة 1950، خطاب رئيس الحكومة مصطفي النحاس لوزير الحربية بفرض السيادة البحرية علي الجزيرتين بعد أن أعارتهما السعودية لمصر، وخطاب مندوب مصر في الأمم المتحدة في مايو 1967 بشأن فرض حظر علي الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة ومضيق تيران.
فالقانون الدولي البحري يحدد نقاط الأساس وخط المنتصف لتعيين الحدود ويقول انهما موجودتان في المياه الإقليمية السعودية وهو ما أكده خطاب الدكتور عصمت عبدالمجيد وزير الخارجية الأسبق إلي الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودية السابق بعد صدور القرار الجمهوري عام 1990. وكان الرئيس الراحل أنور السادات قد حاول في مفاوضات كامب ديفيد توريط السعودية في الصراع بعد المقاطعة العربية بسبب زيارته القدس وما تلاها، من خلال استخدام ورقة أن الجزيرتين سعوديتان بهدف إدخال الرياض في مفاوضات مع إسرائيل وتخفيف الضغط عليه بسبب زيارته إسرائيل. أي أن مصر في عهد فاروق وعبدالناصر والسادات ومبارك تعرف وأكدت أنهما سعوديتان. وهناك كتب مثل كتاب «حرب فلسطين 1948» للمؤرخ العسكري لواء د. إبراهيم شكيب، الذي تضمن خرائط ووثائق تتحدث عن الجزيرتين السعوديتين اللتين تمت إعارتهما لمصر، وكتاب قضية خليج العقبة للدكتور حامد سلطان وهو من هو في القانون الدولي.
نعم.. السعودية كررت طلب عودة الجزيرتين إليها مراراً واستجابت السعودية لطلب مصر التأجيل لأسباب عسكرية وسياسية، تكرر ذلك في عهد عبدالناصر والسادات ومبارك.. ومن ثم فإن اتفاقية تعيين الحدود البحرية أغلقت ملفا مفتوحا منذ سنوات حتي نلتفت إلي ملفات أخري. مصر لم تدع يوماً ملكيتها للجزيرتين، كما لم تدع السعودية يوماً أن مصر تحتلهما.. ومن يقول عكس ذلك عليه أن يقدم الدليل.. . نقول ذلك ونحن نعلن أن إثبات أنهما سعوديتان لا يحتاج هنا إلي ذلك جاء لكن ذلك رداً علي المشككين والمزايدين وخصوصاً الجهلاء بالحقائق.. فنحن كنا نسمع فقط عن غطرسة القوة، لكننا اليوم نسمع ونشاهد «غطرسة الجهل»!
من يقرأ ويراجع يعرف.. لكن من لا يعرف يفتي لأغراض التشكيك والمزايدة السياسية الرخيصة.. نحن في مرحلة غاية في الخطورة... خطر وجود أساساً وليس هناك بلدان الآن في الوطن العربي كبيران يقفان علي أرجلهما سوي مصر والسعودية، وضرب العلاقة بينهما هدفه ببساطة إسقاط الأمة وليس إسقاط مصر.
لماذا العجلة في تعيين الحدود وغلق الملف..!
ببساطة لأن هناك مشروع جسر ضخم عملاق يربط آسيا بإفريقيا ويحقق فوائد اقتصادية كبري لمصر وسيغير كثيرا من خريطة السياحة وغير ذلك من ثمار سنحصدها، هو مشروع متكامل يتضمن إنشاء جسر الملك سلمان ستتحمل السعودية تكاليفه كاملة ويقدرها خبراء بـ 4 مليارات دولار، ولن يتم تمويل الجسر وتنفيذه علي أرض غير سعودية دون توافق تام بين البلدين، فكان لابد من حسم ذلك أولاً..
أما ماذا بعد ذلك..
فمجلس النواب سيناقش ويطلب الأدلة والبراهين وسيطلع علي الوثائق والخرائط ويقول قراره بالتصديق أو الرفض.
في حالة التصديق علي الاتفاق بتعيين الحدود، سيبدأ سريان الاتفاقية لتبدأ مرحلة أخري هي تنفيذ السعودية الالتزامات، التي كانت علي مصر في المعاهدة (وجود قوات متعددة الجنسيات لضمان عدم استخدام الجزيرتين لأغراض عسكرية وحرية الملاحة) والإطار القانوني لذلك.
في هذا الإطار، من المستبعد تماماً أن تبرم السعودية مع إسرائيل اتفاقا سواء بشكل مباشر أو عبر وسيط، أو تحت رعاية الأمم المتحدة أو علي غرار مفاوضات الكيلو 101 إبان حرب أكتوبر لفض الاشتباك، بشأن حرية الملاحة في خليج العقبة ومضيق تيران. في حالة استعادة الجزيرتين من مصر، الموقف السعودي واضح أنه لا اعتراف ولا صلح ولا علاقات من أي نوع مع إسرائيل قبل التسوية النهائية (انسحاب لحدود 1967 بما فيها القدس الشرقية إقامة الدولة الفلسطينية حل عادل لقضية اللاجئين). والمعلومات المتوافرة لدينا تقول إن هناك تطمينات أمريكية للسعودية بأنها لن تضطر إلي توقيع اتفاق بأي شكل مع إسرائيل بشأن حرية الملاحة في مضيق تيران.
فى قضية ريجينى
قبل أيام من جدل الجزيرتين، كانت قضية الباحث الإيطالي جوليو ريجيني تسيطر علي عناوين الأخبار، وتتحدث أقلام عن سوء إدارة الأزمة، ونفخ الإعلام الهاوي في القصة واختلق وروج لوقائع غير حقيقية، تناقلتها وسائل إعلام غربية زادت من الاحتقان والفجوة بين روما والقاهرة. كان يمكن بسهولة أن نفكر خارج الصندوق في قضية مقتل ريجيني من خلال تشكيل لجنة تضم شخصيات رفيعة المستوي (من خارج الصندوق المغلق علي محدودي الكفاءة وعديمي الموهبة والخيال والمعرفة) من أجل خلق مسار جديد في التعامل مع إيطاليا، ليس فقط لأنها دولة صديقة دورها عظيم في دعم مصر بعد 30 يونيو، ولكن أيضا لأنها دولة تتعامل باحترافية عالية مع القرائن والأدلة من واقع تجاربها مع عصابات «المافيا» صناع الجريمة الكاملة وليس مع «حرامية غسيل أو نشالين في أتوبيس». فالتعامل منذ البداية شكل إهانة لذكاء دولة وصل أحد الآباء الروحيين للمافيا فيها إلي منصب رئيس الوزراء ذات يوم. على الرغم مما حدث، فإن محاولة تطوير قضية »عصابة الخمسة« كانت محاولة بائسة رافقتها تلميحات إعلامية ضد الطالب الإيطالي من جانب إعلاميين محسوبين علي النظام، أو ممن يفرضون أنفسهم متحدثين باسم السلطة.. تلميحات بالشذوذ تارة وبالعمالة لأجهزة مخابرات تارة أخري رغم التحذير من ذلك.
..................
يظل الطبالون والزمارون والجهلاء في غطرستهم
ويظل منعدمو الضمير مستمرين في الهذيان
وتظل سمعة مصر في تراجع بسبب حماقات كثيرة
لا يكفي أن تتغنوا بـ «بحب مصر» فيما تسهمون، عن قصد أو دون قصد، في الترويج لادعاءات ونيات غير مخلصة في مقاصدها.. ولا يعرف كل من يروج لكلمة مغرضة عن بلاده أنه يقتلع طوبة من جدار البناء الجديد.
نقلاً عن صحيفة "الأهرام" المصرية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة