التغيرات الديموغرافية والاقتصادية في هذه المنطقة قادمة لا محالة، فهل للحكومات العربية رؤية واضحة للمستقبل
الواقع العربي ليس لغز محير لمن لا يريد أن يدفن رأسه كالنعام في التراب ويتوقع أن يرى الخطر القادم نحوه، فبين ماضي الأمة العربية وحاضرها هناك شبح الإرث الاستعماري بشقيه المادي والمعنوي، فعالمنا العربي في الوقت الحاضر كبضاعة رائجة انتقل من يد إمبراطورية مهيمنة إلى إمبراطورية أخرى، وكأن رقم 500 سنة هو رمز الذل العربي، وطبعًا من المخجل أن نلوم الغير على كل سقطاتنا وتأخرنا الحضاري، ونمنع استخدام العقل ونوجه في اتجاه واحد، وإن كانت بعض دولنا تسير في طريق نهضوي خاص، وهي تغرد منفردة كأن تكون مؤسسة تجارية حكومية مثل شركة طيران الإمارات لديها مداخيل سنوية تفوق الدخل القومي لبعض الدول العربية وبنسبة لا تقل عن الـ70%، ومن جانب آخر تجد الصرف العسكري لبعض الدول، كذلك يفوق الدخل القومي لدول عربية أخرى، وكل هذا ونتساءل إلى أين نحن متجهون كوطن عربي؟
فسكان الوطن العربي معظمه من الشباب الذي لم يسمع ولم يعش فترة القومية العربية ولا يبالي بها البتة، ولديه أحلام أن يطور نفسه ويحقق طموحه، حيث أصبحت الفردية وتحقيق الإنجازات الفردية الشغل الشاغل لشباب العربي، وهو حال الشباب في كل دول العالم اليوم، بينما الواقع المرير يقول إن بعض أطفالنا ولدوا في الملاجئ وهم في سن دخول المدارس اليوم، فعن أي هوية ومستقبل تتحدثون؟
فبعد انتكاسة الربيع العربي تم حدوث خلل لا يتحدث عنه الغالبية وهو مفهوم الدولة لدى المواطن العربي، وهل هو متعلق بمجرد البقاء والعيش أم أن انتمائه فئوي، قبلي، قومي، أو طائفي؟ وما مصير الدولة الحدودية والاستقرار في مكان واحد والكثير من أفراد الشعوب العربية يشعرون بأنهم ضيوف ثقلاء الظل ومن الممكن أن يطردوا في أي وقت.!
وبما أن التغيرات الديموغرافية والاقتصادية في هذه المنطقة قادمة لا محالة فهل للحكومات العربية رؤية واضحة للمستقبل؟ وكيف ستضمن سلامة وأمن أراضيها وتوفير بيئة سليمة وآمنة والقضاء على الإرهاب والعجز المعرفي وتجفيف منابع التراجع الحضاري وتعبئة وتهيئة وتمكين الشعوب العربية للعب دور محوري في المنظومة العالمية الجديدة، والشكوك تحوم حول أن كان سيكون لهم دور يذكر في الأصل.
فالآثار المترتبة على سياسات الدول الكبرى سيكون لها اليد الطولى في رسم خارطة العالم العربي المستقبلية وكيف سيعيش العرب؟ ناهيك عن تحديدات الطبيعة والثورة المعرفية التي ستجبرهم على مواجهة عالم صراع الحضارات على الموارد الطبيعية والخدمات العامة والسوق الإلكترونية والعالم الافتراضي والتقنيات العلمية والطبية، ناهيك عن أنهم يعانون من غياب مقومات المصالحات الوطنية بجانب هيمنة العقل الغيبي على قرارات دنيوية بحته وعدم الاتفاق على مصدر وحجم واحتمالية حدوث التهديدات القادمة وكيفية مواجهتها، ولذلك قريبًا ستجد دولة مثل مصر تخرج تمامًا عن منظومة وحدة المصير العربي في ظل المعطيات الحالية، وتفكر كيف تنجو بنفسها من التحديات المستعصية التي تواجهها ككيان صمد عبر آلاف السنين، فلا ينتظر الحالمون العرب منها أو من غيرها من الدول العربية، وهي قريبًا على وشك أن تتدخل في أزمة مائية والاحتمال الأكبر والمنطقي مستقبلًا حرب مائية، وفي أراضيها يصب أقدم أنهار العالم، ومهما تقربت الدول الخليجية وأطلقت المشاريع المشتركة الضخمة فلا جدوى قبل أن تصفي النوايا السياسية أولًا، ويتفق على تفعيل التعاون العربي المشترك وتعريف ماهية الأمن القومي العربي ووضع تلك المفاهيم في أطر قانوينة ملزمة لجميع الأطراف، وتكون الشعوب المستفيد الأول والأخير من ثمرات تلك المشاريع؟
ومن جهة أخرى نرى أن وتيرة التغيير وخاصة في الناحية المعلوماتية وعالم الاتصالات وصلت لمستويات لا رجعة بعدها وأكثر من 100 مليون عربي يستخدم تطبيق الفيس بوك على هاتفه طوال اليوم، وعلى النقيض يشهد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكبر عملية نزوح بشري منذ الحرب العالمية الثانية، وتحولت مجتمعات تلك البلدان في طبيعتها وأصبحت أكثر عنف واستقلالية ورفض من أجل الرفض، والتمسك بظاهرة المدينة الدولة وحكومة الطائفة وظواهر سلبية ليس لها حصر، وفي غياب الأمن والأمان تلعب الطبقات المهمشة والطبقات الفقيرة المسيسة دينيًا دورًا مهمًّا في لعبة الوصول لكراسي الحكم أو السيطرة على الحكومات، وفي الدول الأقل تضررًا من الربيع العربي تجد عودة حكم المؤسسات الأقوى في البلاد وفرض دولة "مدنسكرية" في ظاهرها مدنية وخلف الكواليس يحكم من يملك قوة السلاح ويسيطر على الجهات الأمنية.
أما بالنسبة لأولئك الذين في مناطق النزاع، لا تزال هناك مخاوف من عدم الاستقرار، سواء كان ذلك بسبب الإرهاب أو الحرب أو الصدمات الاقتصادية، بالإضافة إلى أسئلة الهوية في عالم سريع الخطى، كما أن تراجع أسعار النفط سيخلق ديناميكية التغيير في تحويل اقتصادات الدول المنتجة للنفط لدول معرفية تقنية متخصصة تعتمد على العنصر البشري أكثر من المواد الخام لتصبح قوى اقتصادية عالمية على غرار إعلان المملكة العربية السعودية أنها تدرس بيع أسهم في شركة أرامكو أكبر شركة نفط في العالم وخطط لإدخال الضرائب وخفض الدعم لمواجهة واقع انخفاض أسعار النفط على المدى الطويل، والذي بدوره سيثير إشكالية تأثير الضرائب على التمثيل السياسي في العصر الرقمي وموجة التغيرات الاجتماعية في جميع أنحاء المنطقة.
وإذا ما عرجنا للشام والعراق السؤال يبقى عما إذا كانت الحدود الحالية لتلك الدول قادرة على الصمود في أطماع البعيد والجار وصاحب الدار ومن أطلق الطاعون وأدخل الفأر؟ ففي ظل نشوء الدويلات هل سيكون هناك استقرار سياسي في المنطقة؟ ومن سيدفع فاتورة البنية التحتية لخلق قاعدة حديثة للدول العصرية وتأمين موارد الطاقة ونقلها، وينطبق الحال كذلك على دول المغرب العربي التي تعاني البطالة وارتفاع نسبة الفقر والتوزيع الغير مستدام لثروات وقوة بشرية هائلة تحتاج لتأهيل يتناسب مع طموحات تلك الدول وهي حائرة بين توفير الأساسيات الحياتية أو القفز للأمام على غرار النمور الآسيوية لتصبح النمور الإفريقية، وإن كنت أرى أن بعض دول القارة الإفريقية تسابق الزمن بصمت لتصبح هي تلك النمور.
ومن أجل الحلم بمستقبل أفضل للعالم العربي، يجب علينا أن نعرف بالضبط أين نحن الآن في عام 2016 فمن المحيط إلى الخليج، لا يمكن إلا أن نصل إلى استنتاج أنه في نهاية القرن الحالي سنصبح قوة موحدة بدلًا من أن نتمرغ في الفقر المادي والمعرفي والثقافي ومجتمعاتنا تعاني ويلات ونوبات الوحدة الزائفة في مؤسسات لا تمثل غير أنفسها، ولا تسمع حتى الأموات صوتها وحضورها يقتصر على المؤتمرات الصحفية والبيانات التي لا يقرأها أو يسمعها سوى ثلة من العاملين فيها وقلة من المتابعين للشأن السياسي، فالعرب لا حول لهم ولا قوة، والدليل ما حدث في العراق وتقسيم واستنزاف وخصخصة وفرسنة العراق وإلباسه العمامة الخضراء، ولكن الرأس الذي وضعت عليه تلك العمامة لا يرى بالعين المجردة ناهيك عن العقل .
فباختصار دعونا نقول أن الحال العربي مع استثناءات لدول تقودها قيادات فذة، مثير للشفقة بين القهر والفقر والنفايات والحروب والفساد بالرغم من المزايا الإستراتيجية والاقتصادية، عاجز على الساحتين الإقليمية والدولية، ولا تسأل ما هي جذور التخلف العام للمجتمع العربي، وأعتقد أن المسؤولية تقع على الكل وليس فرد بعينه أو حكومة بعينها، وعلينا تولي زمام المبادرة في الضغط من أجل أحداث التغيير المعرفي الثقافي الحضاري والانفتاح على العالم بثقة ورفع الحظر عن العقل العربي النقدي وجعل الحوار شعبوي ووضع المزيد من الثقة في أن الشعوب العربية قادرة في النهوض والخروج من كهوف الظلام .
فيجب تحرير المواطن العربي من سجون المحلية والسعي الجاد نحو تشكيل الولايات العربية المتحدة واتحاد بين الدول مع توحيد القيادة العسكرية وسياسة اقتصادية وسياسة خارجية واحدة وتغيير الجلد وليس الجوهر، حتى لا يملي علينا الآخر إرادته الكلية، فحتى الربيع العربي تسمية غربية استخدمه الغرب لفهم الثقافات غير الغربية، وهو استعارة من مصطلح "ربيع براغ" في عام 1968، والغرب لا يفهمون واقعنا ولكننا نعلم أنه صيف عربي في صحراء شديد الحرارة لا نبات فيها ولا حياة، فمن الذي خدعنا وقاد جزءًا من شعوبنا للهاوية أم كان أمرًا حتميًّا لما كنا عليه، وبما في ذلك مصادر الجهل الإعلامي العربي والترويج للربيع العربي و خيانة الأمانة دون علم، أم كانوا يعلمون وقبضوا الثمن والعالم العربي بكل بساطة 100 سنة وراء أوروبا في مواجهة القومية وشعوب تحركها الخطب والشعارات وهو أرث مقدس أدخلنا في دوامة مكانك سر ....
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة