أزمة الصحافة اللبنانية بنيوية وعميقة. والحديث عن تعثر مطبوعات ولدت مع لبنان الحديث أو بعده بقليل
أزمة الصحافة اللبنانية بنيوية وعميقة. والحديث عن تعثر مطبوعات ولدت مع لبنان الحديث أو بعده بقليل، يعني التخلي عن رموز ارتبطت بقيام الدولة وعاصرتها، صعوًدا وهبوًطا. لم تنل الحرب اللبنانية الأهلية اللعينة من عصب الصحافة، ولو أنها أدمتها، باغتيال رجالاتها والاعتداء عليهم. لا بل بالعكس ازدهرت مؤسسات إعلامية كثيرة، كما بقي المسرح حًيا، والكتب مزدهرة، فلبنان ينتعش بمحيطه، الذي منه استمد دوره وألقه، وكان هذا المحيط نابًضا وحيوًيا.
ليس الموضوع المستجد هو النزاع بين الورقي والإلكتروني، أو سرقة أحدهما وهج الآخر ووظيفته، بل هشاشة المضمون في الحالتين، وعسر التمويل الذاتي، وتحديد الدور، وبلورة الرؤية.
تعتمد بعض الصحف على شركات أجنبية لإعادة تحديد منظورها، ونفض صفحاتها، وتتكئ غالبية المؤسسات على ما يطلبه منها الممول، دون أن تعبأ بما يطلبه الجمهور، أو ما تريده من نفسها.
معلوم أن صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية أوقفت نسختها الورقية أخيًرا، ومجلة «نيوزويك» الأميركية تخلت عن نسختها المطبوعة عام 2012، بعد 80 سنة من الحياة، وتراجعت عن قرارها، بعد سنتين فقط، لإدراك أن الورقي يسند الإلكتروني ويعطيه قيمة مضافة. وهي تجربة تشي بأن المطبوع ليس بالضرورة أن يأتي بإعلاناته الخاصة، وإنما قد يمول من الإلكتروني الذي يختلط بالمرئي والمسموع في عملية تكاملية تبدو معقدة، لكنها تجد توازناتها، بفعل التجريب.
والمحطات التلفزيونية اللبنانية ليست أقل إرباًكا من الصحف في إيجاد مخارج لأزماتها، وإن كان هامش المناورة لا يزال أمامها أكثر اتساًعا بقليل. فتكاليف الإنتاج تتصاعد، في ظل تنافس شرس، بينما المداخيل تراوح مكانها.
عاش لبنان منذ استقلاله عًزا إعلامًيا أكبر من حجمه، وكان له صوت يبلغ أضعاف مساحته بفضل تاريخهالصحافي الاحترافي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، وتوزع أبناء المهنة ليصدروا مطبوعاتهم من أميركا الشمالية والجنوبية في تشيلي والبرازيل والأرجنتين، كما في مصر وإسطنبول وسوريا. وسّطر كّتاب لبنان الكبار، في غالبيتهم الساحقة، أدبياتهم في الصحف، من جبران إلى ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وإلياس أبو شبكة. لم تكن الصحافة في لبنان يوًما مجرد ترف، كما أنها لم تتمكن بمضي الوقت من تحويل نفسها إلى صناعة مستقلة، وهنا يكمن المأزق.
المعضلة في لبنان مركبة، وتعصف بكل المهن الإبداعية ذات البعد الثقافي، من دور النشر تتبعها المطابع، إلى المسرح ومثله الفن التشكيلي، وقبلهما السينما. كل أخذ يبحث عن مخرجه الآمن، وسبل خلاصه. وإن كان الناشرون لا يزالون يسألون إن كان الكتاب الإلكتروني الذي سرعان ما يقرصن قد ألغى دورهم، وجد السينمائيون وصفاتهم الخاصة. مع الكاميرات الحديثة، والأفلام السهلة التصوير، صار للبنان في السنة أكثر من عشرة أفلام، وكان المخرج يتلطى على أبواب المؤسسات المانحة سنوات قبل أن يحظى بتمويل لفيلم واحد. وبعد موت سريري للمسرح دام سنوات، استطاعت أكثر من مسرحية أن تعرض لشهور طويلة وسط إقبال كثيف، في حين لم يكن العمل الواحد يصمد لأسبوع. غّير المسرحيون في القالب والموضوع وطريقة العرض وشكل المسرح، وحتى في أسلوب بيع التذاكر، ولم تكن الوصفة سيئة على الإطلاق.
الصحافة اللبنانية الحالية لا تتنبه إلى أنها لا تخاطب من هم دون الأربعين، ثمة قطيعة مع جيل كامل له اهتمامات أخرى، حتى ديناصورات الصحافة لا يلتقطون ذبذباتها. الصحافيون الشباب الذين يفترض أن يشكلوا همزة وصل، تنقصهم الدربة ويعوزهم الكثير من المران. الحلقة المفقودة يجب أن تلتقط بسرعة، كي تكتمل الحلقة المفقودة.
عشر صحف رئيسية في بلد الأربعة ملايين مواطن، غالبيتهم لا يقرأون، هذا غير المطبوعات المناطقية، ليس على الصحافة أن تفكر كيف تتحول إلى صناعة ثقيلة، ربما بالدمج السمح بين بعض مؤسساتها. أكثر من بالأمر العملي ولا المنطقي.
الصحافة إن لم تكن متحررة من هّم التمويل وتأمين المداخيل من جيب الزعيم، من الصعب لها أن تثمر وتورق، وتقرأ اهتمامات الأجيال الصاعدة، وهي في غالبيتها بعيدة عن السياسة. على الصحف اللبنانية، وربما المحطات التلفزيونية أيًضا، أن تجد بين بعضها شراكات تحولها إلى مؤسسات أكبر، ذات إمكانيات مالية وفنية تسمح لها، بالاستقلالية، ومخاطبة القارئ أو المتفرج، بما يليق به ذكاء وفكًرا. الظن أن المواد التي تحقق الإثارة السريعة، والمفاجأة السطحية، وبعض أخبار الفنانات المغريات يمكنها أن تبني مصداقية، أمر يدعو للضحك. بعض المواقع باتت تخصص أولى صفحاتها لموضوع من قبيل «كيف تقّشر البصل دون
دموع» أو «أسرع طريقة لكّي القميص»، طمًعا في اصطياد الاهتمام. عناوين تستدعي رثاء الصحافة اللبنانية أكثر من خبر إغلاق هذه الصحيفة أو تعليق النسخة الورقية لغيرها.
مشكلة الصحافة الورقية تبدو متشابهة ظاهرًيا في كل بلد، لكنها ليست كذلك عند التدقيق. الصحافة اللبنانية لم تكن حكومية يوًما ولا ربع رسمية. قامت ولا تزال بمبادرات فردية، وتسعى لتأمين رزقها يميًنا وشمالاً. وربما أن الوقت حان لتبلغ الصحافة، التي لا ديمقراطية ولا حرية ولا حياة سياسية «عفية» من دونها، سن الرشد بعد مخاض لم يكن بالسهل. إنه الوقت الأمثل لأهل المهنة، ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف، ليجدوا خلاصهم الجماعي، خصوًصا أن الأخبار تقول إنهم يجتمعون، ويتناقشون، ويفكرون. لذلك يبقى الأمل، ولو ضعيًفا، في أن يخرجوا مًعا بما يستحقه منهم لبنانهم وقراؤهم مهما صغر عددهم أو كبر.
وسواء كانت النتيجة إلكترونية أو ورقية، فليس هذا هو المهم. الصحافة المنتظرة هي تلك الزبدة التي يريدها المواطن، صافية من الغش وبريئة من دس السم في العسل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة