في مثل هذه الأيام، كانت تدور فيما بين 1914 و1918، رحى الحرب العالمية الأولى، بين القوى التي صنعت حضارة القرن التاسع عشر
في مثل هذه الأيام قبل قرن من الزمان، كانت تدور فيما بين العامين 1914 و1918، رحى الحرب العالمية الأولى، بين القوى التي صنعت حضارة القرن التاسع عشر. وبينما تأخرت محادثات وضع النهاية القانونية والسياسية لهذه الحرب العالمية الاولى، حتى معاهدة فرساي التي ظلت تتبلور بين مختلف الدول ما بين العامين 1918 و1920، فقد عرف العامان 1916 و1917، أي قبل ذلك بعامين أو ثلاثة أعوام، قيام القوى الكبرى، التي كانت تسير نحو الانتصار في الحرب، بتقرير مصير المنطقة التي كانت تحكمها الإمبراطورية العثمانية، والتي تشكل منطقتنا العربية القسم الأكبر منها، من خلال وثيقتين تاريخيتين، هما اتفاقية سايكس- بيكو، التي قسمت المنطقة العربية، إلى منطقتي نفوذ بين القوتين الاستعماريتين المنتصرتين (أو السائرتين الى الانتصار في الحرب): فرنسا وبريطانيا، ثم رسالة بلفور الى روتشيلد (الشهيرة تاريخياً باسم وعد بلفور).
بين سطور هاتين الوثيقتين، صنعت القوى الاستعمارية الكبرى الحدود الجديدة لأقاليم المنطقة العربية التي ما زلنا نعرفها حتى يومنا هذا، وقررت مصيراً أسود لأحد هذه الأقاليم العربية، هو فلسطين، باعتباره الوطن القومي الموعود، لكل ما يمكن التخلص منه من يهود أوروبا، حيث كانت عنصرية الأوروبيين ضد مواطنيهم اليهود قد سادت وازدهرت طوال القرن التاسع عشر، خاصة في دول أوروبا الشرقية، على عكس أوضاع اليهود القاطنين في الدول العربية (دول المغرب، ومصر، ودول المشرق العربي)، الذين كانوا يعيشون فيها كمواطنين عاديين متساوين مع سائر المواطنين.
لم تكن تلك الثمار الوحيدة للحرب العالمية الأولى، بل سادت بعد انقشاع غبار تلك الحرب، تيارات فلسفية في الدول الأوروبية بالذات، الوريثة الشرعية للأفكار الإنسانية للثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، عبرت عن بشاعة الحصيلة البشرية والقانونية والأخلاقية لتلك الحرب العالمية.
عندما قارنت بين التقدم العلمي الباهر للأسلحة التي استخدمتها جميع القوى المشتركة في الحرب، وحصيلة القتلى من البشر في جميع المناطق الجغرافية التي غطتها الحرب.
ولعل بين أبرز ممثلي هذه التيارات الفلسفية الفيلسوف «ألبرت شفايسر» الذي وضع تحليلات مطولة عن المقارنة بين مدى التقدم العلمي الذي كانت عليه أسلحة الحرب العالمية الأولى، ومدى التقهقر الأخلاقي والإنساني والقانوني، الذي عبر عنه استخدام القوى الكبرى، لثمار هذا التقدم العلمي الباهر في صناعة الأسلحة المتقدمة.
لكن للأسف الشديد، كان التأثير الفعلي لهذه التيارات الفلسفية الأوروبية بشكل خاص، منعدماً في أوروبا بشكل خاص، فبدلاً من تغير مجرى التاريخ في هذه القارة العجوز، أخذ النشاط الاستعماري لدول القارة الأوروبية يتمادى في القرن العشرين، بعد أن ساد طوال القرون السابقة، حتى أنتجت الحضارة الأوروبية، بالإضافة إلى النزعة الاستعمارية البشعة لدى دول أوروبا الكبرى، ظاهرتين مثل النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، فانفجرت قبل وصول القرن العشرين إلى منتصفه، رحى الحرب العالمية الثانية، التي طغت فظائعها وبشاعتها على فظائع وبشاعات الحرب العالمية الأولى بعشرات المرات، حيث لاقى الملايين من البشر حتفهم.
ومع أن الحرب العالمية الثانية، قد أثمرت في نهايتها منظمة الأمم المتحدة، وأصدرت من الوثائق الإنسانية عن حقوق المجتمعات والأفراد، ما لم تنتجه البشرية في كل مراحلها السابقة، فقد شهدنا في عام 1948 حدثين متناقضين يكشفان بشاعة المصير البشري المتمادية تحت نفوذ الدول الكبرى في النظام الدولي، فبينما كانت البشرية تقر في أواخر عام 1948 الوثيقة الرائعة لحقوق الإنسان، فقد كانت في منتصف العام نفسه تتشارك فيما بينها (القوى الشرقية الشيوعية، والقوى الغربية الرأسمالية)، على المساعدة المكشوفة لطرد شعب كامل من أرض وطنه التاريخي، فلسطين، لتمنح الأرض لشتات المهاجرين اليهود المجتمعين من شتى بقاع الأرض، شرقاً وغرباً.
لذلك لم يكن غريباً، أن يدخل المجتمع الدولي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، في حروب دولية صغيرة نسبيا كحرب كوريا، ثم حرب فيتنام، وما زلنا حتى يومنا هذا نعيش كبشرية، تحت نير ذلك التناقض المريع بين تقدم العلم الذي يظهر أكثر ما يظهر في تطوير أنواع لا سابق لها من الأسلحة، وبين التأخر الإنساني والأخلاقي والقانوني، الذي ما زال يصنع لنا حروباً تترك الملايين من الضحايا، والمشردين، والنازحين، وما زال ضحايا الأمراض المستعصية يخضعون للموت، دون أن يفعل التقدم العلمي شيئاً لحمايتهم أو إنقاذهم.
إن شيئاً لم يتغير رغم مرور مئة عام على الحرب العالمية الأولى، وأكثر من نصف قرن على الحرب العالمية الثانية، فمازال العلم في تقدم مستمر، وما زالت الإنسانية والأخلاق والقانون الدولي في تقهقر مستمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة