كثيرا ما يوصف كل من أحمد أمين وحسين أحمد أمين بـ «الكاتب الإسلامي»، وهما كذلك
منذ أسابيع قليلة ضدر فى مصر كتاب بعنوان: «الليبرالية فى القرن العشرين، نماذج فكرية مصرية: أحمد أمين وحسين أمين». كتبه باحث يابانى متخصص فى الشئون العربية هو (ماكوتو ميزوتانتي)، ونشرته مجموعة النيل العربية.
وقد تصادف أن تحل اليوم الذكرى السنوية الثانية لوفاة أخى حسين أحمد أمين (إذ توفى فى 18 إبريل 2014)، وأن يكتمل فى هذا العام 130 عاما على ميلاد والدى أحمد أمين (الذى ولد فى أول أكتوبر 1886)، فوجدت من الملائم أن يكون مقالى اليوم عنهما.
كثيرا ما يوصف كل من أحمد أمين وحسين أحمد أمين بـ «الكاتب الإسلامي»، وهما كذلك بمعنى أن أهم ما كتبه كل منهما وثيق الصلة بالإسلام، وإن كانا قد كتبا ايضا كثيرا فى غير الإسلام وفى موضوعات لا تمس الدين من قريب أو بعيد، وكل منهما كان بلا شك كاتبا فذَّا، بمعنى أنه أتى بأشياء جديدة ومهمة، سواء عندما كتب فى الإسلام أو فى غيره.
أما أحمد أمين، فقد جاء المهم والجديد فيما كتبه عن الإسلام فى اشهر كتبه على الإطلاق، وهى الاجزاء التسعة مما وصفه بأنه تاريخ «الحياة العقلية فى الإسلام»، أى التاريخ الفكرى للإسلام. وقد شّبه هذا التاريخ باليوم، فجاء أول جزء بعنوان «فجر الإسلام»، ثم ثلاثة أجزاء بعنوان «ضحى الإسلام» ثم أربعة اجزاء بعنوان «ظهر الإسلام»، ولكن طلب منه قرب نهاية عمره أن يلخص هذا كله فى مجلد واحد فكتب كتابا صغيرا جميلا سمّاه «يوم الإسلام» (دار الشروق 2009) احتوى خلاصة القصة كلها منذ ظهور الإسلام حتى وقت كتابة الكتاب فى منتصف القرن العشرين، واعتمد فيه على ما بقى فى ذاكرته دون الرجوع إلى مراجع بسبب ضعف صحته، واقتصر فيه على ما اعتبره مهما دون الدخول فى تفاصيل، فجاء كتابا جذابا بقوته واختصاره.
كانت هذه السلسلة عملا فذا وجديدا من نوعه لأنه فى الربع الثانى من القرن العشرين، قدم تطبيقا للمنهج العلمى الصارم فى شرح وتفسير التطور الفكرى فى الإسلام، سواء كان الفكر الدينى ومذاهبه أو الفلسفى أو التاريخى أو الاجتماعى بغير تعصب أو عاطفة ملتهبة مما كان سائدا فيما يكتب عن الإسلام فى البلاد الإسلامية فى ذلك الوقت، ودون تعصب أو تحيز ضد الإسلام طبعا كالذى كان سائدا فى كتب المستشرقين، ولا عجب أن حققت هذه السلسلة نجاحا وشهرة كبيرين، وما أكثر من قابلت من مثقفين مصريين وعرب أكبر منى سنا الذين ذكروا لى كم هم مدينون لأحمد أمين، ولهذه السلسلة على الأخص فى تكوينهم الفكري. لأحمد أمين كتاب جميل آخر يمكن تصنيفه ايضا على أنه من «الإسلاميات» اسمه (زعماء الإصلاح فى العصر الحديث) وتناول فيه حياة وفكر بعض من أشهر المجددين فى الفكر الإسلامى من جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده إلى أحمد خان فى الهند، ومحمد بن عبدالوهاب فى الجزيرة العربية، وخيرالدين التونسي..الخ.لكن لأحمد أمين كتب ايضا فى غير الإسلام، لقد جمع خلال حياته تسعة مجلدات تضم مقالاته التى كان ينشرها فى مختلف المجالات الثقافية واحاديثه الإذاعية فى مختلف الموضوعات، وسماها «فيض الخاطر»، وجمعنا نحن بعد وفاته ما ضمناه جزءا آخر بالعنوان نفسه، ولم يحاول أحمد أمين أن يضيف هذه المقالات، ولا حتى أن يرتبها بحسب موضوعاتها، بل تركها جنبا إلى جنب، برغم اختلاف موضوعاتها، فكونت باقة بديعة من الازدهار المتعددة الألوان، يدهشك ما فيها من ابتكار، ومن تنوع اهتماماته وسلاسة أسلوبه وبساطته.ثم خطر له قبيل وفاته أن يجرب شيئا آخر، وهو أن يكتب قاموسا «للعادات والتقاليد والتعابير المصرية» فظهر كتاب فى 1953، أى قبل وفاته بعام واحد يحمل هذا العنوان، وبرره كما قال فى المقدمة باعتقاده أن فى العادات والتقاليد دلالة على نوع الاخلاق ونوع العقلية للشعوب، وأن فى التعابير الشعبية من أنواع البلاغة ما لا يقل شأنا عن بلاغة اللغة الفصحي» وأذكر أنه طلب من سيدة من العائلة أن تصحبه فى ذهابها إلى إحدى جلسات «الزار»، لكى يصف هذه العادة ايضا فى كتابه.
كما كتب سيرته الذاتية فى كتاب بديع آخر هو «حياتي» 1950، أشاد به كبار الادباء المصريين لصدقه وصراحته وجمعه بين حياته الشخصية وبين ما طرأ خلالها من تطورات على المجتمع المصري.
فى نهاية كتاب «يوم الإسلام» وهو آخر ما كتبه أحمد أمين من إسلاميات أخذ يؤكد ويكرر الدعوة إلى الاجتهاد وأنه لا نهضة للمسلمين إلا إذا فسروا المبادئ الإسلامية تفسيرات تساير العصر وتواجه مشكلات الحياة المتجددة دوما.. هذه الدعوة إلى الاجتهاد برغم أهميتها فى نظر أحمد أمين لم تكن هى الرسالة الاساسية التى اضطلع بها فى كتاباته الإسلامية، بل كانت الرسالة الاساسية هى إعادة كتابة التاريخ الإسلامى بطريقة علمية وخالية من التحيز أو العاطفة. كان هذا العمل من شأنه بالضرورة أن يمهد الطريق للاجتهاد، إذ أن فهم التاريخ وارجاع كل ظاهرة إلى اسبابها الاجتماعية المتغيرة لابد أن يوجه العقل إلى محاولة اكتشاف أنسب الحلول لظروف العصر الراهن، لكن تطبيق هذه الدعوة إلى الاجتهاد لم تحتل فى كتابات أحمد أمين إلا أماكن قليلة ومتفرقة فى مقالاته، التى جمعها فى اجزاء «فيض الخاطر»، وفى الجزء الأخير من الإسلاميات، أى فى «يوم الإسلام»
كان الفارق بين مولد أحمد أمين ومولد حسين أمين نحو نصف قرن، وفى هذه الفترة حدث فى مصر ما يفسر الاختلاف بين اتجاه الوالد والابن فى كتاباتهما الإسلامية، فبينما ركز أحمد أمين على البحث التاريخى ودعا إلى جانب ذلك إلى الاجتهاد، ركز حسين أحمد أمين على الدعوة إلى الاجتهاد ولم يحتل البحث التاريخى إلا جزءا ثانويا من كتاباته. وكان أهم كتب حسين أمين الإسلامية وأشهرها على الاطلاق «دليل المسلم الحزين إلى مقتضى السلوك فى القرن العشرين (1983)، الذى وصفه أحمد بهاء الدين بأنه «من أخصب ما قرأت من كتب إسلامية، يختلط فيه العلم الواسع بالأدب الرفيع.. وميزة الكاتب الواضحة أنه يجمع بين ثقافة إسلامية مكتملة وثقافة غربية واسعة، وقد دعا حسين أمين فى هذا الكتاب إلى «العودة إلى تفسير ظاهرى للقرآن، لا يقر تصوفا ولا اشتراكية ولا رأسمالية، ولا يحاول الايهام انه يحوى نتائج العلم الحديث، وإلى تنمية نظره إلى الدين والتراث لا باعتبارهما وسيلة للهروب إلى الماضى من المشكلات وإلى الاحساس بالأمن الزائف، وإنما كوسيلة للتصدى لمشكلات الحاضر والمستقبل. إن هذا الكتاب وكتابين آخرين (الإسلام فى عالم متغير، وحول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية) تتضمن بعض الدراسات التاريخية القصيرة، لكن تظل مساهمة حسين أمين الرئيسية فى كتاباته الإسلامية هى تصّديه بشجاعة وبلاغة لظاهرة التطرف الدينى التى لم تكن قد ظهرت بعد عندما كتب أحمد أمين أول كتبه الإسلامية، ولم تتحول إلى ظاهرة معلقة إلا قبيل وفاته.
كتب حسين أحمد أمين ايضا أعمالا أدبية بديعة، فكتب مسرحية بالغة الجمال بعنوان (الإمام)، لم تحظ للأسف بما تستحقه من إشادة (نشرتها مكتبة مدبولى فى 1990)، ويصور فيها المفارقة الصارخة بين شخصيتين من أهم شخصيات التاريخ الإسلامي، على ومعاوية، فإذا بالخلاف بينهما يمثل الصراع الابدى بين هاتين النزعتين فى النفس الإنسانية: النزوع إلى الحق والعدل من ناحية والتطلع إلى الظفر بالسلطة والنجاح الدنيوى من ناحية أخري. كما كتب حسين أمين كتابا جميلا فى السيرة الذاتية ( فى بيت أحمد أمين)، نشرته مكتبة مدبولى ايضا، ويحكى فيه قصة حياته من خلال وصفه لشخصية أحمد أمين وأسرته، كما كتب مجموعة كبيرة من المقالات الاجتماعية والسياسية بأسلوب أدبى جذّاب، ونشر بعضها فى كتاب (رسالة من تحت الماء، وسخريات أخرى صغيرة، دار سعادة الصباح 1992).
رحم الله الكاتبين الكبيرين، وغفر لهما ولنا
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة