عرض "التماثيل أيضًا تتألم"..كوريغرافيا مشحونة بالغضب
مهرجان "أشغال داخلية 7" يختتم أعماله في بيروت
ثمانون دقيقة من الغرابة والصخب في عرض "عن العاج والجسد- التماثيل أيضًا تتألم" للفنانة البرتغالية مارلين مونتيرو فرايتاس وفرقتها.
ثمانون دقيقة من الغرابة والتوتر والصخب، هذا هو عرض "عن العاج والجسد – التماثيل أيضًا تتألم" الذي قدمته الفنانة الأدائية البرتغالية مارلين مونتيرو فرايتاس وفرقتها.
من الصعب أن نعرف ما الذي شاهدناه ليل الثلاثاء 24 تشرين الثاني / نوفمبر، هناك في الليلة الأخيرة لمهرجان "أشغال داخلية 7" ببيروت، على منصة مسرح "دوار الشمس". يمكننا أن نقول: إنه عرض راقص، لكن ذلك ليس كافيًا، طالما أن ما كنا نراه يشوش كثيرًا فكرتنا عن عروض الرقص، بوسعنا أيضًا أن نقول: "هذا رقص مسرحي"، أي ينطوي على معالجة دراماتورجية تستثمر الرقص كأحد شروط الفرجة والتمثيل، لكننا نشعر أن ليس ثمة مسرحية هنا، بل أن مؤلفي العرض لم يبذلوا أي جهد ليُظهروا في عملهم أي رسالة أو معنى معلنَين، والأسوأ من ذلك أن الرقص بحد ذاته لا نجد له مرجعية كوريغرافية واضحة، تصميم الحركات والوضعيات، ثباتاً وتحولاً، يكاد يكون على الضد من مألوفنا للكوريغرافيا.
في الدقائق الأولى، يظن المشاهد أن الموسيقى والأجواء تركية، وقلت ربما هي مغربية، لكن ثمة ما يوحي بمناخات وإيقاعات قد تكون فارسية، وانتبهنا أن لحظات من رقص الأجسام وأصوات الإيقاع ما يحيلنا ربما إلى فلكلور قوقازي أو روسي، وسرعان ما تخلينا تمامًا عن أي محاولة لإيجاد أصول أو مرجعيات بصرية أو موسيقية أو كوريغرافية لهذا العرض؛ إذ رحنا نشاهد أيضًا ما يشبه "الرقص التعبيري" الغربي والمعاصر في صلب كل ظنناه فلكلورًا قديمًا.
العنوان "التماثيل أيضًا تتألم"، هو أكثر ما يسعفنا في إدراك مقاصد هذا العرض، الألم العميق بالغ الوجع هو روح العرض وصورته التامة، أجساد ساخطة تتلوى من آلامها الداخلية ومن جروحها الجسمانية والنفسية، ونراها هكذا تتحرك وتتحطم، رقص يقوم على كسر الجسد ومسخه وانهدامه في كل مرة.
حشد هائل من الأصوات والإيقاعات الحيَّة بالصنوج النحاسية، والموسيقى التي تتراوح بين الإثنوغرافي والأوبرالي والروك والإلكتروني التجريبي... إلخ، كلها مع تدرج الأجسام من حالات صنمية إلى حركة الدمى الخشبية، إلى انفلات لرقصات بشر - مسوخ، ومستعصية على الانسياب أو التسامي، تائهة في بحثها عن الانسجام والطمأنينة.
نحدس طوال الوقت، أن المؤدين في توترهم وقسوة ملامحهم، ومكياجهم الكالح والأسود والكثيف، وعنف رقصهم، وانشداد أجسادهم على الألم، وانكسارهم المفاجئ كل مرة، إنما "يمثلون" استعصاء الحب والرغبة والراحة، استعصاء التنفس والاسترخاء، إنهم هنا في جحيم صراع لا يتوقف، بما يطابق صورة الإنسان المعاصر ولهاثه ومأزقه الوجودي.
تقول كريستين طعمة، مديرة مهرجان "أشغال داخلية": "استضفنا هذا العرض بسبب جنونه، ولأنه يشبه يأسنا اليومي واحتجاجنا وغضبنا، هذا العرض يفضح انكسارنا الجسدي والروحي، ويضعنا أمام حقيقة الموت، الذي هو اليوم أفقنا الوحيد".
"عن العاج والجسد – التماثيل أيضًا تتألم" مستوحى من أسطورة بغماليون، والنحات الذي وقع بجنون في حب واحدٍ من تماثيله، وتضرع لفينوس أن تبث الحياة في التمثال، واستلهمت مونتيرو فريتاس عرضها كذلك من عمل آلان رسنيه وكريس ماركر "التماثيل تموت أيضًا". محور العمل إذًا هو التماثيل، بوصفها في الأصل الخرافي والأسطوري بشرًا تم مسخهم إلى تماثيل، تقوم الفنانة بدعوة هذه التماثيل إلى حفل راقص، يتحول إلى واقعة مشهدية، هي ما نراه على المنصة.
تعرّف مارلين مونتيرو فرايتاس عملها بالقول: "إنه استكشاف تشابك عدد من الأفكار، شأن المنظورية والقدرة على الحركة والتحريك والإحياء والصورة وقرينتها، أي الأيقونة.. ويمثل الحفل الراقص مناسبة وضّاحة ومعتمة في آن، ربما تكتنف حضورًا شبحيًا، يتيح لها احتضان الكثير مما ينطوي عليه كل من الحياة والموت".
فرايتاس لديها اهتمام خاص بما يعرف بحركة "التهجين" في الفن المعاصر، وهي حركة تركّز على دمج وسائل الإعلام في أشكال جديدة من التعبير الفني، وتجاوز الحدود الفاصلة بين الفن والبحث العلمي والثقافة الشعبية والنشاط السياسي والاجتماعي، وربما لهذا السبب تستعين الفنانة البرتغالية بفكرة موجودة في التراث الديني والميثولوجي والحكايات الخرافية، المليء بروايات عن بشر يتم مسخهم إلى حجارة أو تماثيل.
وبغض النظر عن المنطلق النظري أو الفني للعرض، فإن التأثير يبقى في الإنجاز المشهدي المسرحي، قوة العمل حاضرة بسطوة الرقص وغرابته، بالكوريغرافيا غير التقليدية، المشحونة بالطاقة الفوارة للغضب والتوتر والسخط والألم، ببراعة تحولات الضوء والصوت والسينوغرافيا المتقشفة، إيقاظ الراقصين الأربعة والموسيقيين الثلاثة ذاك التوق إلى الحب فينا مجددًا.