الأهم من ذلك، أن الرأي العام الذي يأمل كنعان أن تحرك المحاضر رد فعل لديه، تتراوح حالته اليوم بين الغيبوبة وبين الموت السريري
عندما يطلب النائب إبراهيم كنعان رفع السرية عن محاضر لجنة المال في مجلس النواب اللبناني ووضعها «في متناول الرأي العام، وبالتالي القضاء»، فكأنه على سراب يراهن.
الأرجح أن النائب عن «التيار الوطني الحر» يعرف لاواقعية ما يدعو إليه، ليس كإجراء إداري في مجلس النواب ولكن البحث عن رد فعل مساند لموقفه في أوساط الرأي العام والقضاء. ذلك أن كشف الفساد والهدر الذي ستدل عليه المحاضر والمراسلات المذكورة لن يزيد شيئاً على ما يعرفه اللبنانيون وعلى ما يقرأونه ويشاهدونه في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
وعندما يكون تبادل الاتهامات بين الوزراء والنواب والسياسيين من مختلف التيارات والعشائر، بسرقة المال العام والرشوة والمحاباة وتقديم الأزلام إلى المناصب العليا، هي الخبز اليومي لصحف بيروت، يصعب الاعتقاد أنه سيكون لإماطة اللثام عن بضع ارتكابات مشابهة صدى في الرأي العام أو في القضاء.
الأهم من ذلك، أن الرأي العام الذي يأمل كنعان أن تحرك المحاضر رد فعل لديه، تتراوح حالته اليوم بين الغيبوبة وبين الموت السريري، تماماً مثلما يتخذ كل دعوات اللجوء إلى الرأي العام موقعاً بين السذاجة الشديدة والخبث الفاضح، لإدراك كل متعاط في الشأن اللبناني عمق الهوة التي وقع فيها هذا البلد بمؤسساته ومجتمعه وعبثية أي كلام عن استعادة حكم القانون أو الحقوق العامة.
وكأن كل هذا لا يكفي حتى جاء اكتشاف السياسيين اللبنانيين منصات التواصل الاجتماعي أخيراً، بسماجتهم وثقل ظلهم وادعاءاتهم، لينقلوا معاركهم التافهة إلى من نجا من القراءة عنها في الصحف أو مشاهدتها على شاشات التلفزة، حتى بات من حق من تصله تغريدات الوزير والزعيم ورئيس التيار إلى أقصى زاوية يرغب في الاختفاء فيها، أن يتساءل عما يريد هؤلاء من هذه المطاردة الساخنة لمواطن يعيش فقراً وعجزاً وبطالة وسط روائح النفايات واليأس المقيم، فيما يتسلى السياسيون باستعراض جهلهم وقلة ذوقهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ما سر هذه القدرة على تعميم النكد والغمّ ونشره، وما معنى هذه المسافة الشاسعة التي تفصل بين إحباط العامة من الناس وتعبهم وبين نشاط الخاصة؟
نقترح هنا إجابتين: الأولى تتعلق باطمئنان السياسيين إلى سلامة «خزّاناتهم البشرية» التي ستعود إلى انتخابهم، بكل فسادهم وعجرفتهم وانعدام بصيرتهم، عندما يعلو نفير التوجه إلى صناديق الاقتراع. وهذه، على ما علمتنا التجربة منذ اتفاق الطائف، ليست سوى أداة لتأكيد الاستفتاء على زعيم الجماعة المذعورة وحاميها من الأعداء، أبناء الطوائف والجماعات المنافسة والأخطاء الخارجية سواء بسواء.
الإجابة الثانية تتفرع من الأولى: أدى موت السياسة في لبنان إلى تفرغ المشتغلين بها (أو بالأحرى بدفنها) إلى تبادل اتهامات ستقع في الفراغ الهائل للقبر المشترك للبنان واللبنانيين. عليه، لا تندرج الاتهامات بالفساد وتبادل التشهير بالسرقة وما شابه في باب السياسة التي يفترض أن تقوم على آليات محاسبة ومراقبة، بل تندرج ضمن النميمة والتسلية التي تتخذ من مصالح ومستقبل اللبنانيين الغافلين أو الموافقين في أكثريتهم الساحقة على بقاء أوضاعهم على ما هي عليه، على أمل الوصول إلى خلاص فردي أو الحفاظ على الحظوة عند الزعامة الطائفية.
النميمة والمنافسة على من هو الأكثر فساداً من دون خشية الحساب القانوني أو الشعبي (أثناء الانتخابات) لا يقولان إلا أن بلدنا قد انهار وأن رائحة انهياره فاحت على المواطنين وعلى العالمين.
*- نقلا عن جريدة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة