سلوكنا الاجتماعي تغير ولم يعد طرح المواضيع الثقافية والفكرية من أولوياتنا. وفي ذات الوقت هناك طرق قوي ومباشر على العقول، بما يحقق غسلها
أوحت بهذا الحديث صورة نشرتها مواقع الخدمة، لعائلة مكونة من أبناء وأحفاد، في زيارة للأم العجوز بمناسبة يوم الأم.
تجمع الجميع، ولم يتجمعوا، فالكل منشغل بهاتفه المحمول، ولا أحد يدير وجهه نحو الأم المحتفى بها.
هذا المشهد رغم كاريكاتوريته، هو بات مشهدا عاما ومألوفا، ولا يكاد يوجد بيننا من لا يمارسه، بشكل أو بآخر.
تداعت المعاني، وانتقلت صورة هذا المشهد إلى محطات أخرى، إلى الفن الهابط، والأصوات النشاز، وكيف تعودت الآذان على الطرب بها.
لماذا غاب الزمن الجميل، ولم يعد لدينا تراكم يمكننا من استحضار جديد لعمالقة الفن الذين رحلوا.
فلم تقتصر حالة التراجع على الفنون، بل شملت مجمل الحالة الثقافية بالمجتمع العربي.
فالنكوص يبدو أمرا متفقا عليه، إذا ما جرت المقاربة بين حالنا الراهن، وبين المشهد الثقافي بالعقود السابقة.
لقد شملت حالة التردي كل ما له علاقة بالروح وبالوجدان، وعمادهما إنسانيا، الفنون والثقافات.
لم نعد نشهد إبداعا حقيقيا، يتمثل في إنتاج غنائي جميل وأداء عذب. كما لم يعد للمسرح العربي حضوره الأخاذ الذي كان عليه، زمن نجيب الريحاني وعادل خيري وعبدالمنعم المدبولي، وفؤاد المهندس، وغيرهم. وفي مجال الرواية لا نزال نقتات على روايات حنا مينا ونجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس، وجبرا إبراهيم جبرا، والسيد صالح، وعبدالرحمن منيف وعبدالحليم عبدالله، وغيرهم من الأفذاذ، الذين ملؤوا ساحة الرواية العربية فنا وإبداعا.
ليس ذلك فحسب، فقد أدت تطورات العقدين الأخيرين، بانتشار ظاهرة الإنترنت، إلى تراجع دور الكتاب وقرائه، وغابت حلقات الفكر. سادت الضحالة، بسبب تراجع منسوب القراءة، في المجتمع العربي، حيث بتنا، حسب التقييم العالمي، من أقل شعوب العالم إقبالا على الكتاب.
وليس من شك في أن شعبا لا يقرأ لن يكون بمقدوره المساهمة في صنع الحضارة، والتماهي مع العصر الذي يعيش فيه. وحضر بيت الشعر العربي المأثور، نعيب زماننا والعيب فينا. فنقد الواقع الثقافي الراهن لن يكون دقيقا ومحرضا على الخروج من النفق ما لم يبحث عن الأسباب. فالنتائج باتت مقررة. وما نتطلع له هو صياغة مستقبل ثقافي أفضل.
وليس من شك في أن التطور العلمي غير المسبوق في مجال الإعلام والفنون شكل عبئا على الثقافة العربية. فالثورات التي حدثت في مجالات الإعلام والثقافة والاتصالات كشفت عن مجالات هائلة، وخيارات كثيفة أمام الناس.
لقد كان المجتمع في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم يعيش عالما مختلفا تماما، عما هو عليه الآن. فالوسائل محدودة، إلا أن العطاء في مجالات الفنون والثقافة كان أعمق وأكثف بكثير.
وربما تفسر محدودية الوسائل محدودية الخيارات. فإذا استثنيا التلفاز الذي بالكاد يستقبل محطة واحدة، وفي ساعات محدودة تنتهي قبل منتصف الليل، فإن ما يتبقى هو المذياع.
وكان في حينه يشكل العقول، وينقل لنا شروحا عن تأميم قناة السويس، وعن العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، وعن معارك ثوار الجزائر، والصراع بين الشرق والغرب، وموقع الأمة العربية في هذا الصراع.
وعلى مستوى الصحافة العربية: كانت محرضا على الثقافة والوعي، وباستثناء محطة الـ"بي بي سي"، لم تكن هناك إذاعة أجنبية ناطقة باللغة العربية. وكانت تستقطب مستمعيها، بالتركيز على الثقافة العربية، والفن الأصيل، ونشرات الأخبار والتحليلات السياسية، التي تدار بمهنية عالية.
لم تكن لدينا وسائل ترفيه تغني عن الكتاب والصحيفة والمذياع. وكانت حقبة نجوم بامتياز. نجوم في السياسة، والفكر والأدب. ونجوم في الفن. وطبيعي أن يفتتن الشباب بتلك النجوم، فيكونوا مثلا أعلى لهم. وكان ذلك في حقيقته نوعا من تشكيل الحقول، فرضته طبيعية الأشياء.
الوضع اختلف الآن كثيرا، فلم نعد نسمع للمغنى، إلا مصحوبا بالصورة، وما صار يطلق عليه بالكليب. اختلط الصوت مع الصورة، وكثيرا ما تغلب الصورة على الصوت. يحتل المطرب مكانا مرموقا في عالم الغناء، فتكون الصورة سببا في تردي المضمون.
وحل الإنترنت بجبروته، محدثا انقلابا، تراجع معه دور الكتاب والمجلات والصحف. وأغلقت كثير من كبريات الصحف مقارها بعد إفلاس، وحاولت بعضها الحفاظ على البقية الباقية من حضورها، فامتنعت عن النشر الورقي، واكتفت بالنشر الإلكتروني. وبرزت مواقع الخدمة الاجتماعية، ولتحتل مواقع في كل البيوت، في أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة.
حتى سلوكنا الاجتماعي تغير، ولم نعد في غالب الأحيان. لم يعد طرح المواضيع الثقافية والفكرية من أولوياتنا. وفي ذات الوقت هناك طرق قوي ومباشر على العقول، بما يحقق غسلها، وإضعاف مقاوماتها ونزع هوياتها. محطات كوميدية رخيصة، وبرامج سياسية واجتماعية ضحلة.
والسينما تحولت إلى استنساخ باهت ومشوه، لأفلام غربية، أو أفلام عربية من الزمن الجميل.
تفسير هذا الواقع يوضح أن ما كان لدينا سابقا، رغم محدوديته، كان يفعل فعلا عميقا في تشكيل الشخصية العربية، بشكل إيجابي، أما الخيارات المفتوحة فإنها خلقت حالة من الانفلات، والافتتان، بالألوان الصارخة والزاهية، من غير جوهر أو معنى.
هذه الأوضاع ترتب مسؤوليات جسيمة على صناع القرار العربي، وتحديدا أجهزة الثقافة والفنون والتربية والإعلام. ليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة، فما تحقق هو منجز إنساني كبير، ينبغي استثماره بالطريق الصحيح.
ينبغي التركيز على حضور الكتاب، من خلال مسابقات في المدارس بكل مراحلها، تستهدف القراء والكتاب على السواء. ولماذا لا تقنن الفنون، فتجري مراكز تحكيم للأداء، ولا يسمح بطرح الغث منه، على مسامع الناس وأنظارهم. ولماذا لا يجري التشجيع على المناقشة والكتابة.
وبالإمكان التشجيع على البرامج التلفزيونية الهادفة، وتشجيع المبادرة والإبداع، بما يؤدي إلى انبثاق وعي جديد، يرتفع بمستوى الذوق العام، ويسهم في تحقيق نهضة فكرية وفنية وثقافية جديدة. وسيشكل ذلك محطة مهمة على طريق تغيير المشهد الداكن، وجعله أكثر إبداعا وبهجة.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الوطن السعودية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة