كلما تصاعدت النوائب والكوارث فى منطقة الشرق الأوسط.. تيقنت الحكومات فى الغرب أن الدور المصرى لا بديل عنه.
كلما تصاعدت النوائب والكوارث فى منطقة الشرق الأوسط.. تيقنت الحكومات فى الغرب أن الدور المصرى لا بديل عنه.. وأن استقرار مصر هو محور ارتكاز عندما تفلت الأوضاع ويغرق الشرق الأوسط فى حسابات طائشة متهورة لا يعى من أطلقوا الفوضى من عقالها أن سهامها سوف ترتد إليهم يوما ما وأن حساباتهم الضيقة سيأتى يوم أيضا تنظر عواصم القرار على الساحة الدولية إلى القاهرة باعتبارها العاصمة التى تفك شفرات كثيرة لما يجرى عربيا وإقليميا.
دور القاهرة فى تلك المرحلة يتجلى فى زيارات متتالية من رؤساء دول وحكومات ومسئولين رفيعى المستوى وأهمها زيارة الرئيس الفرنسى فرانسوا أولاند الذى جاء على رأس أكبر وفد من نوعه يمثل كل مصالح الدولة الفرنسية، وكان الرجل بحق معبرا فى كلماته عن رؤية باريس الدور المصرى وأهميته فى توقيت حرج تمر به منطقة الشرق الأوسط، وبالتزامن مع هذه الزيارة جاءت زيارة نائب المستشارة الألمانية. هذه الزيارات الأوروبية إلى جانب الحضور العربى مثل زيارة الشيخ محمد بن زايد ولى عهد أبو ظبى فى إطار التنسيق مع دولة الإمارات الشقيقة والزيارة المرتقبة خلال أيام لملك البحرين وقبلها خادم الحرمين الشريفين تقول إن مصر قد تجاوزت مسألة الوجود على الساحة الدولية والاعتراف بثورة 30 يونيو وما جاءت به من تطورات لم تكن مرضية لبعض القوى الخارجية والإقليمية وقلة فى الداخل تبنى آمالا كبيرة على تعطيل المسار الحالى ودفع البلاد إلى الفوضى من جديد.
أهم ما جادت به الأحداث فى الأسبوع المنصرم أن سيناريوهات الفوضى قد تكشفت وشخوصها تبدت بوضوح بعد مشهد يوم الجمعة الماضى فى وسط القاهرة، حيث حاولوا بشتى الطرق الإيحاء بأن البلاد لم تعد تحتمل أوضاعها وأن السيناريو الوحيد المقبول هو هدم البيت على الجميع دون استثناء من أجل إثبات وجهات نظرهم ولم يبادلهم عامة الناس نظرياتهم البالية ومخططاتهم الساذجة، سوى بالتهكم والسخرية من المبالغة فى ردود الفعل دون انتظار نظر البرلمان لمسألة إعادة جزيرتى «تيران» و«صنافير» إلى السعودية أو الاستماع إلى آراء الخبراء.
كما لو كانت النية مبيتة للخروج على النظام العام وتحضير الشارع لسيناريو الفوضى حيث نسى هؤلاء أن المصريين علمتهم التجارب قدرا كبيرا من الحنكة والصبر وأن البلاد لم تعد تدار من منابر الفضائيات التى لم يعد السكوت على انفلاتها مقبولا دون وجود هيئة تمثل مصالح وحقوق المشاهدين لأنها أيضا كشفت عن القبح بعينه عندما منحت الساعات لشخصيات متهورة وجاهلة ومغرضة تمطر الرأى العام بسخافات تبدأ بانتقادات ما أنزل بها من سلطان وتنتهى بتخوين كل من يخالفهم الموقف, ناهيك عن التحريض الفج ضد السلطة السياسية فى ممارسة لنفس نهج جماعة الإخوان فى الإقصاء!!! وربما هذا التشابه أمر طبيعى بين المتطرفين أيا كانت القبعات التى يرتدونها.
كانت المراهقة السياسية التى شغلت الرأى العام لعدة أيام عابرة للاتجاهات والمواقف والأيديولوجيات وبرهنت لعامة الناس أن تغليب مصلحة البلاد اليوم يكون بالارتفاع فوق الطموحات السياسية المدمرة للأوطان وأن من حسن الفطن أن يعرف كل سياسى فى هذا البلد أين تخطو قدمه, حيث لم تعد مصر تحتمل إضاعة الوقت أو تشتيت الجهود فيما لا طائل منه. فالسياسى المدرك للأبعاد السابقة يعلم أن العلاقات مع دولة شقيقة لا تحتمل كل تلك الملاسنات والتشنجات, وكان الأفضل أن يعبر كل طرف عن رأيه بقدر من العقلانية والتحضر والحرص على المصلحة العامة دون الانزلاق إلى التخوين واللغة الرخيصة.
أقول لهؤلاء إن القيادة التى حسمت أمرها فى 30 يونيو ونزلت دعما للشعب فى ثورته ضد من هدد الأرض والبشر وكيان الدولة لا يمكن أن توصف بمثلما رددتم من هتافات رثة وبالية ولا يمكن الهبوط إلى مستوى من «التخوين» لرجال عاهدوا الشعب على حماية مقدراته وحقوقه وأرضه وعرضه. نعم الوطن لا يباع ولا يشترى .. ولاتنسوا أن الولاء للوطن أيضا لا مكان فيه لتمويل أجنبى يخدم مصالح بعينها.. فأين حمرة الخجل؟!
فى وسط تلك المواقف المرتبكة من جانب البعض، جاء الرئيس الفرنسى حاملا رسائل عديدة إلى الشعب المصرى أهمها أن بلاده تدرك أهمية العلاقات الجيدة مع دولة محورية فى المنطقة وأن تأثيرها على صناعة القرار فى الغرب لا يمكن الجدل بشأنه أو نكرانه. وقد بدت فى قلب محادثات أولاند فى القاهرة قيمة واضحة هى الحرص على التشاور مع مصر فى الملفات الإقليمية سواء ملف سوريا أو ليبيا أو اليمن وأن الرؤية المصرية تفرض نفسها وتحقق تقدما، حتى لو كان بطيئا، لأنها قامت بعد 30 يونيو على إعلاء المصالح المصرية وحراسة المصالح العربية ووقف تدهور حالة الأمن القومى العربى وخطابات الرئيس عبد الفتاح السيسى تشهد على ذلك وأيضا على وقوفه ضد جماعات الإرهاب التى توجد لها روابط تاريخية مع العواصم الغربية وهى مسألة لم تكن سهلة أو هينة فى ظل وجود ماكينات إعلامية شرسة فى أوروبا والولايات المتحدة تحرض ضد التحول السياسى الضخم بعد الثورة الشعبية ضد جماعات تستغل الدين فى أغراض سياسية. مجرد اقتراب العواصم الأوروبية من المنظور المصرى فيما يخص مواجهة الإرهاب مهم... وأقول «اقتراب» وليس «تطابقا لأن العلاقات بين الدول لا تقوم على توحد الرؤى ولكنها تقوم على التفاهم ومحاولة الوصول إلى صيغ توافقية تحقق المصلحة الوطنية دون التعدى على حقوق الدول الأخري.
إن حضور الرئيس الفرنسى أولاند ونائب المستشارة الألمانية ثم جون كيرى وزير خارجية الولايات المتحدة بعد 24 ساعة من مغادرة أولاند وقيام شخصيات عربية رفيعة المستوى بزيارات مرتقبة فى الأيام القليلة المقبلة يؤكد أن القاهرة تستطيع أن تلعب دورا محوريا مطلوبا عربيا ودوليا فى مجال مكافحة الإرهاب فى سوريا واليمن وليبيا من أجل توحيد الكلمة حول قضية باتت تؤرق مضاجع الغرب وتدفعه لمراجعة الحسابات بعد أن وصلت حمم الإرهاب البغيض إلى عقر داره.
فارق كبير بين السياسة المصرية التى كانت تقف موقف المتفرج بعد 25 يناير ثم حاولت الجماعة بشكل مريب جرها فى مشروع خارجى يخالف المصالح الوطنية فى عهد جماعة الإخوان (منها التحضير لتورط الجيش المصرى فى سوريا من إجل إسقاط النظام والدولة) وبين الموقف اليوم حيث عادت مصر وسياستها الخارجية إلى لعب دور «نقطة التوازن» الإقليمية.
لقد حقق التعاون مع فرنسا وألمانيا طفرات كبيرة فى وقت قصير فى المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية بما يخدم أهداف التنمية والتقدم والبناء بعد أن تأكدت الدول الأوروبية أن مصر تحت حكم السيسى تنشد الإصلاح والتنمية والتقدم للشعب بعيدا عن الصراعات والحروب, وأن محاولات بناء دولة حديثة مسألة مبدئية وليست أقاويل زائفة وهو غاية ما ننشده اليوم. كما أن الخطاب الحضارى لمصر يمس وترا حقيقيا بامتداداته العالمية التى تريد السلام والأمان للجميع دون تمييز وهى رسالة إنسانية أصيلة تتفق مع قيم وحضارة مصر. بالمثل، جاءت رسالة أولاند من فوق أسوار قلعة صلاح الدين تحمل دلالات ومغزى عميقا حيث حرص على تأكيد أن مصر بلد الأمن والأمان وأن ما تواجهه من إرهاب تتعرض له القارة الأوروبية أيضا والعديد من دول العالم وكأنه أراد أن يقول إن استخدام تلك الموجات الإرهابية ضد مصر هو فى حقيقة الأمر ورقة ضغط على مصر لتحقيق أهداف سياسية.
كما أن هناك علامات نضج فى المواقف الأوروبية تفرق ما بين الإسلام وجماعات الإسلام السياسى التى تتستر بعباءة الدين وتتبع أجندات عسكرية خارجية بدأت بحرب أفغانستان عام 1979 وورثت العلاقة المريبة التى تأسست بموجبها جماعة الإخوان عام 1928 فى أثناء الاحتلال البريطانى لمصر بعد سقوط الخلافة العثمانية حيث صارت خنجرا فى ظهر الشعوب العربية يمتد إلى يومنا هذا حتى استيقظت مصر ضد ما حاول البعض الإيحاء والترويج له باعتباره قدرا محتوما!
.....................
فى وسط تلك الزيارات العديدة، يتأكد لدى المجتمع الدولى أن الدولة المصرية قد عادت إلى موقعها دولة يحسب لها مواقفها وآراؤها وهى تبنى مكانة أعمق وعلاقات أكثر توازنا مستفيدة من دروس الماضى القريب ولاشك أن الزيارات التى يقوم بها زعماء ومسئولون كبار من منطقة الخليج تمثل أهمية خاصة فى توقيت تحاول مصر والدول العربية الأكثر تأثيرا فى السياسات الإقليمية وضع تصورات للحل بشأن قضايا بعينها أهمها الأوضاع فى سوريا وفرص الحل السياسى عبر تسوية بين النظام والمعارضة، والقضية الفلسطينية فى ظل أفكار جديدة تلوح فى الأفق، والتسوية فى اليمن من أجل إنهاء الحرب الأهلية، والوضع الحرج فى ليبيا فى ظل حكومة التوافق الوطني.
وعلى صعيد العلاقات المصرية-الأوروبية، تشير اللقاءات الرفيعة المستوى فى الآونة الأخيرة إلى تفاهم أكبر بين القاهرة والدول الرئيسية فى مجموعة غرب أوروبا مثل أسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا، رغم بعض القضايا والمشكلات التى تثير زوبعة فى وسائل الإعلام، والتفاهم يؤتى ثماره فى اتصالات مكثفة على أصعدة السياسة والاقتصاد والجوانب الأمنية والعسكرية من أجل تقديم مزيد من الدعم لمصر فى هذه الآونة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة