المسافة بيننا، الشرق الأوسط والأميركتين واحدة، ومع ذلك بينما نجد أنفسنا غارقين في تفاصيل ما يحدث في أميركا الشمالية
المسافة بيننا، الشرق الأوسط والأميركتين واحدة، ومع ذلك بينما نجد أنفسنا غارقين في تفاصيل ما يحدث في أميركا الشمالية، نكاد نفتقر إلى أبسط المعلومات عن أميركا الجنوبية. ما يحدث، بل ما حدث بالفعل، في أميركا الجنوبية خلال الشهور القليلة الماضية يستحق أن نهتم به. تنبع دعوتي للاهتمام بأحداث هذه القارة من إحاطة بالتاريخ الحديث، حيث كانت أميركا اللاتينية، بوجه عام، سباقة بتطوراتها ومراحلها الانتقالية على تطورات الشرق الأوسط، إلى حد أن راح متخصصون يربطون بينها ويفسرون بعض التطورات في الشرق الأوسط باعتبارها نتيجة متوقعة لتطورات سبقتها في أميركا الجنوبية أو متأثرة بها.
سبقت شعوب أميركا اللاتينية شعوب الشرق الأوسط في تحقيق استقلالها الوطني، وإن كان يصعب تجاهل تزامن الثورة الإصلاحية التي قادها محمد علي باشا في مصر وإبراهيم باشا في بلاد الشام مع نشوب الثورة التي قادها سيمون دي بوليفار ضد الاستعمار الإسباني، يبدو هذا التزامن المتكرر أو التأثير المتبادل بين التطورات الكبرى في القارة اللاتينية والشرق الأوسط أكثر وضوحاً عند دراسة المرحلة اللاحقة لنهاية الحرب العالمية الثانية، ففي الإقليمين لم يكن ممكناً أو مناسباً أن تستمر الطبقات الاقطاعية في الهينمة على السلطة، إذ كانت قد بدأت تتكون تنظيمات وحركات تدعو إلى تحديث الدولة والمجتمع، وتقدمت الصفوف القوات المسلحة، فكانت الأرجنتين الدولة التي جددت شرعية العسكريين كحكام وقادة مجتمعات ومن ثنايا انقلاب خوان بيرون وجماعته خرجت حركة اجتماعية تدعو إلى إنصاف الطبقة العاملة وتعديل توازنات المجتمع في الأرجنتين، ومنها إلى عديد من دول القارة.
في مرحلة أخرى، قادت أميركا الجنوبية العالم النامي نحو قواعد جديدة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، باركتها بعض الدول الكبرى والمؤسسات الاقتصادية الدولية، وكانت مصر أول الدول المستفيدة فكرياً وتنموياً من هذا التوجه الإصلاحي في تنمية المجتمعات النامية. أدت هذه التجربة بين ما أدت إلى دعم المركز في المجتمع وادماج الأطراف في الدولة، وبالتالي ازدادت الحاجة إلى حكومات قوية لمواجهة تداعيات اختلال التوازن المجتمعي، ففي مرحلة من المراحل كانت معظم دول أميركا اللاتينية ومعظم الدول العربية تخضع لنظم حكم قمعية، سواء استخدمت العسكر في شكل مباشر، فتولوا مقاليد الحكم أنفسهم، أو استخدمتهم أداة لإحكام السيطرة. ولا شك في أن الشعوب هنا وهناك دفعت وتدفع ثمن هذه المرحلة غالياً.
في كل هذه المراحل، لم تكن الولايات المتحدة بعيدة تماماً عما يدور من أحداث وتطورات. أقول هذا في نهاية هذه المقدمة الطويلة نسبياً لأقارن بين حال العلاقات بين الولايات المتحدة والدول العربية من ناحية، وحال العلاقات بينها ودول أميركا اللاتينية من ناحية أخرى، يشهد الواقع وأحداث الأسابيع الأخيرة أن الولايات المتحدة تجد نفسها غير مرحب بها في الإقليمين على رغم كل الجهود التي تبذلها إدارة باراك أوباما لتحسين صورتها والاعتذار أحياناً عما ارتكب أسلافه.
وفي الحالتين نجد من يتهم أميركا صراحة بالمسؤولية عما تعانيه الشعوب أو عانته خلال العقود الماضية، وبخاصة خلال السنوات الأخيرة. القارة اللاتينية تواجه حالياً أوضاعاً صعبة، والشرق الأوسط يواجه مأساة لعلها الأسوأ منذ قرون.
في الأرجنتين حكومة جديدة يقودها ماوريسيو ماكري، هدفها استئصال جذور نظام اقتصادي اعتمد نظام التخطيط الشامل لخدمة الطبقات الضعيفة، ومن أهدافها المباشرة فرض نظام جديد لجذب الاستثمارات والاعتماد على السوق المفتوحة والاقتصاد الحر. في الوقت نفسه، يجري توجيه اتهام إلى السيدة كريستينا كيرشنر بالفساد وهي التي تولت رئاسة الجمهورية بعد زوجها، وسارت على النهج البيروني في حكم البلاد. وصول ماكري وعودة الطبقة الثرية لتولي الحكم ومباركة أميركا للنظام الجديد، جعل الأنظار تتجه من جديد إلى القوات المسلحة ودورها في دعم هذا النظام واحتمال عودتها إلى الواجهة.
وصل أوباما إلى الأرجنتين لسوء الحظ في يوم يحتفل فيه الشعب بذكرى الانقلاب العسكري الذي وقع في عام ١٩٧٦ وأيدته في ذلك الحين الولايات المتحدة، هذا النظام المدان بارتكاب ما يسمى «الحرب القذرة» التي راح ضحيتها آلاف الشباب قتلى أو اختفاء. يوم الوصول نشر آدولفو بيريز إيسكويفيل الحائز على جائزة نوبل رسالة إلى الرأي العام الأرجنتيني يعلن فيها أن أوباما غير مرحب به، فالولايات المتحدة وقفت، وفق رأيه، وراء كل محاولات هز استقرار الحكومات الشعبية في القارة.
كانت الزيارة غير ناجحة شعبياً، رغم أنها تمت بعد زيارة أوباما «التاريخية» إلى كوبا.
في كوبا نزل أوباما إلى هافانا كأول رئيس أميركي يزور الجزيرة بعد ثمانية وثمانين عاماً. كان كالفين كولدبرج آخر رئيس زار كوبا في رحلة استغرقت ثلاثة أيام وفي حماية بارجة حربية. كانت زيارة أوباما لكوبا خطوة جريئة، وإن متأخرة. لم يتحدث خلالها بسوء عن الاشتراكية ولكنه تحدث عن مزايا الاقتصاد الحر وحرية الفرد.
الآن يردد اليساريون في كل مكان عبارة هل فقدت هافانا بهذه الزيارة روحها، هذه العبارة لا أذكر أنها ترددت أو حتى قيلت بعد زيارة قام بها أوباما أو غيره من رؤساء أميركا لدولة في الشرق الأوسط. أوباما والمستعمرون والصحافيون المرافقون لأوباما في زيارته لكوبا، كانوا يتحدثون عن عودة هافانا، منتجعاً مخصصاً لاستمتاع السائح الأميركي بالشواطئ المشهورة والنساء وكازينوات القمار. السؤال كثير التردد هو هل يتطلب تحديث كوبا التضحية بروح هافانا، حين تتحول المدينة من أجل معدل نمو ٦ في المئة سنوياً إلى منتجعات وأحياء تحيط بها الأسوار ولا يسكنها إلا الأغنياء والحكام والأجانب؟ المواطن العادي التعس سيفقد حق الاستفادة من شواطئ بلاده، فكلها ستخضع لإدارة الفنادق وأصحاب المنتجعات، وكما قال كوبي فقير لصحافي أميركي «سنحرم منها إلا إذا اخترنا العمل فيها عمال نظافة أو خدماً في المقاهي والمطاعم. هذا الشعور، وهو متجذر في نفوس عديد المواطنين الكوبيين، لا يبشر بمستقبل هادئ لكوبا في ظل نظام اقتصادي آخر كالذي يبشر به أوباما. هذا على الأقل هو ما جاء في المقال الذي كتبه الزعيم والرئيس السابق فيديل كاسترو في اليوم التالي لزيارة أوباما. كتب كاسترو يذكر أهل بلاده بما ارتكبته الإمبراطورية الأميركية في حق كوبا وهاجم سياساتها العنصرية وسيادة الرجل الأبيض، بينما تحدثت صحف أميركا عن أن التفرقة العنصرية ما زالت قائمة في كوبا على رغم سنوات الاشتراكية، فما زال الأسود أفضل كثيراً من الأبيض.
وفي البرازيل شهدت الأسابيع الأخيرة تدهور الاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي تحت وقع قضايا فساد متهمة فيها السيدة ديلما روسيف رئيسة الجمهورية، نشبت تظاهرات لم تشهد البرازيل لها مثيلاً تطالب بمحاكمة رئيسة الجمهورية، وهي التظاهرات التي أعادت إلى الأذهان ذكرى تظاهرات مماثلة نشبت في عام ١٩٦٤ ومهدت لانقلاب عسكري. عرفت تظاهرة ١٩٦٤ باسم مسيرة العائلة وكانت أيضاً للاحتجاج على الفساد، وقع أيضاً في ظل حكومة هذا الانقلاب القمع وتردت سمعة البرازيل في العالم وساد التضخم المالي، ويكاد البرازيليون يتوقعون الآن وضعاً مماثلاً بعد أن فقد الريال ٣٠ في المئة من قيمته وسادت الفوضى ورفضت السيدة روسيف التنازل عن الحكم.
أعود فأكرر قولي: ما أشبه هنا بهناك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة