تعميم الصور النمطية عن بيروت تعميماً طفولياً، واللعب على وتر حق الأهالي في مدينتهم دون غيرهم، فيما يشكل هؤلاء «الأغيار»
يعتقد تيار «المستقبل» أن أهالي بيروت ما زالوا يرتدون «الغمباز» المُقلّم ويعتمرون الطربوش الأحمر، وأن الواحد منهم يمضي نهاره وليله يدخن الأركيلة (الشيشة) على زاوية «قهوة القزاز» (الزجاج)، متحدثاً في سيرة الزير سالم ومصغياً الى مغامرات أبي عبد البيروتي الخرافية، وأن ذائقتهم الفنية توقفت عند أغنية «تسرح وتمرح».
ويخاطب مرشحو التيار للانتخابات البلدية المقبلة، البيارتة كما لو كانوا يتحدثون الى أطفال في الخامسة من العمر، ويرى المرشحون أن الوقت قد أزف ليقلدوا تقليداً سطحياً لهجة القدماء من أهالي المدينة، وأن يستخدم كبيرهم الياء مكان التاء المربوطة في كلمة «البيارتة» دليل رسوخ علاقته بالسكان الأصليين وإتقانه مصطلحاتهم السائرة على طريق الانقراض.
ويفترض التيار الذي يكرر فشله في إدارة المدينة ويفاقمه (بالتكافل والتضامن مع حلفائه الانتخابيين/ خصومه السياسيين) منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، أن أساليب التسويق الحديثة «الماركتينغ» التي درسها مرشحوه في جامعاتهم، والتركيز على الصورة والشعار البسيط الجذاب والتحدث بلغة «الإنسان العادي»، عوامل تكفل للائحتهم النجاح في استحقاق اختيار المجلس البلدي للمدينة التي كانت (مع خطين تحت الفعل الماضي الناقص) مركزاً ثقافياً وسياسياً واقتصادياً في الشرق الأوسط.
تعميم الصور النمطية عن بيروت تعميماً طفولياً، واللعب على وتر حق الأهالي في مدينتهم دون غيرهم، فيما يشكل هؤلاء «الأغيار» في واقع الأمر النسبة الأكبر من القاطنين فيها، لا يفيدان سوى في الإعلان عن النزعة «الاستشراقية» عند تيار «المستقبل» ومرشّحيه، بمعنى مقاربة الموضوع من خارجه وانطلاقاً من أحكام مسبقة جاهزة. ويظهر «استشراق» التيار مرة ثانية في محاولته شد العصب الطائفي لسنّة بيروت، بعدما أهمل طويلاً مصالحهم الحيوية وعمل، بالتعاون مع شركائه في التحالف الحاكم، على قضم تراثهم المعماري والثقافي وإحلال منطق الأعمال السريعة المربحة بدل الرعاية. بل إن «المستقبل» يتحمّل عبر سياساته الاقتصادية والاجتماعية، مسؤولية انتقال أعداد كبيرة من البيارتة الى السكن خارجها، بعدما تحولت أبنيتها الى أحجار في لعبة مضاربة استثمارية لا قِبل للمواطن المحدود الدخل بالمشاركة فيها.
بيد أن كل ذلك يتأسس على حقيقتين مترابطتين: الأولى، أن «المستقبل» يملك ورقة رابحة هي الخوف السنّي من الحيوية الشيعية، السياسية والعسكرية والاقتصادية، لكنه يستغل هذا الخوف الى حدود ما دون الوقوع في المواجهة المباشرة المعقود النصر فيها سلفاً للخصوم (الحلفاء على اللوائح الانتخابية) الشيعة. لهذا التكتيك في التخويف من الشيعة من دون الاصطدام بهم، أسباب عدة يبررها التيار بالحرص على أمن البلاد. وهذا ليس السبب الوحيد في أي حال من الأحوال.
الحقيقة الثانية، أن «المستقبل» يَعي ضعف منافسيه السياسيين على الساحة السنّية وامتعاض السنّة، خصوصاً أهل المدن وتحديداً بيروت، من التطرف والغلو اللذين تمثلهما التنظيمات الإسلامية، على غرار «القاعدة» و «داعش»، التي مثلت في مرحلة سابقة عنصر جذب لمواجهة تمدد «حزب الله»، لكنها فشلت في تقديم بديل حقيقي، ما أبقى على الموقع الممتاز للتيار بين جمهوره المضطرب والخائف.
أمام هاتين الحقيقتين، تصغُر قدرة اللوائح البيروتية المقابلة على انتزاع تمثيل وازن في المجلس المقبل لبلدية المدينة، بغض النظر عن مخاطبة بعض اللوائح لحسّ مدني رفيع وراق. لكن المدنية والرفعة والرقي من البضائع الكاسدة في الأسواق الانتخابية، على ما هو معلوم.
نقلاً عن الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة