النمو الاقتصادي هو أساس الاستقرار السياسي في أي بلد، بغض النظر عن نظامه السياسي القائم
النمو الاقتصادي هو أساس الاستقرار السياسي في أي بلد، بغض النظر عن نظامه السياسي القائم. والحكومة التي تفشل في إدارة الاقتصاد وتوفير الخدمات الأساسية تدفع شعبها إلى التفكير ببدائلها حتى في البلدان ذات الأنظمة القوية. أما إذا كان النظام حديثاً وغير راسخ وغير متماسك فإن احتمال التفكير بالبدائل يكون هو السائد في الأوساط السياسية والعسكرية.
النظام الديموقراطي يمتلك شرعية انتخابية لا يمتلكها النظام غير الديموقراطي، وفي الإمكان استبدال الحكومة كل أربع سنوات، لكن الشيء الأهم لأي نظام سياسي هو التأييد الشعبي المتواصل والإيمان بقدرته على إدارة البلاد من النواحي الأمنية والاقتصادية والخدمية. فإن تراجع التأييد الشعبي للنظام السياسي وتزعزعت ثقة الناس بقدرته على إدارة البلاد، وإن بعض القوى الفاعلة، سواء كانت سياسية أم عسكرية، وحتى من المجتمع المدني، سوف تفكر ببدائل ليس للحكومة فحسب بل للنظام ككل، مستغلة الاستياء الشعبي والمشاكل التي تلكَّأ النظام في حلها. وقد حصل هذا في بلدان أخرى وليس مستبعداً أن يحصل في العراق إن عجز السياسيون عن الاتفاق على صيغة عادلة للحكم تأخذ في الاعتبار مصالح الناس جميعاً وليس الأحزاب فقط.
الاستياء الشعبي الواسع حالياً من إخفاق الحكومة في إيجاد الحلول الناجعة للمشاكل المُلِحِّة التي تواجه البلد، وهي تحديداً اختلال الأمن وانتشار الفساد وارتفاع البطالة وتدهور الخدمات الأساسية كالكهرباء والصحة والتعليم، لن يتلاشى بمرور الزمن كما يتوهم البعض، بل من المتوقع أن يتفاقم ويتخذ أشكالاً أخرى خطيرة وعندها ستزداد مشكلة الحكم تعقيداً. وما قد يفاقم الاستياء الشعبي عجز الحكومة عن تعويض الناس مادياً عبر التوظيف والإنفاق على الخدمات والمشاريع الاستثمارية التي توفر وظائف للعاطلين، بسبب تراجع عائدات النفط التي تمول خزينة الدولة بنسبة تفوق الـ90 في المئة، إضافة إلى الاضطرار للإنفاق على محاربة الجماعات المسلحة التي تسيطر على أجزاء واسعة من البلاد.
النظام الديموقراطي يحتاج إلى قدر من الوعي السياسي والنمو الاقتصادي كي يترسخ، وكل الدول التي تحولت إلى النظام الديموقراطي بلغت هذين المستويين قبل التحول، لذلك فإن الأنظمة التسلطية والشمولية تجد نفسها في مأزق دائماً، فإن نجحت في إدارة البلاد اقتصادياً فإن النجاح يولد وعياً سياسياً وقدرة اقتصادية تدفع الناس للمطالبة بمزيد من الحريات والمشاركة السياسية، وإن أخفقت، فإنها تدفع الناس نحو التفكير ببدائل لها، بما في ذلك تغيير النظام، وفي أحسن الأحوال، فإن الأنظمة تدرك الحاجة إلى تغيير نفسها فتبدأ بسلسلة إصلاحات سياسية تؤدي في النهاية إلى استبدال النظام بآخر سلمياً كما حصل في أسبانيا في عهد الجنرال فرانكو.
الأحزاب السياسية التي حكمت العراق منذ 2004 حتى الآن، لم تتقاسم السلطة السياسية فحسب، بل تقاسمت كل شيء حتى أن الوزارات ومؤسسات الدولة أصبحت مقرات للأحزاب التي تديرها ومصادر لتمويلها وتوظيف أعضائها، وكل ذلك على حساب المهنية والقانون ومصالح الناس. وقد ولَّد هذا الوضع غير الطبيعي هذا الاستياء العارم لأنه لم يعد في مقدور الإنسان العادي أن يجد وظيفة بسيطة أو يجري معاملة عادية من دون واسطة أو تدخل من الأحزاب السياسية. والأسوأ من ذلك كله أن بعض مسؤولي الأحزاب بدأ يلفِّق التهم للموظفين المستقلين أو المنتمين للأحزاب الأخرى ويستخدم صلاحياته لمضايقتهم من أجل أن يدفعهم إلى ترك وظائفهم أو طلب التقاعد كي يملأ دائرته بأتباعه وأقاربه وأصدقائه.
الفشل والفساد والتعسف دفعت الكثير من العراقيين إلى المواجهة والتفكير بحلول أخرى، لكنها لم تصل حتى الآن إلى حد المطالبة بتغيير النظام، بل تشكيل حكومة كفاءات مستقلة، كي تتمكن من إدارة البلاد في شكل مهني ومنصف وتنتشلها من المأزق الحالي. لكن تردد السياسيين في الاستجابة لهذه المطالب المشروعة والمبررة يدل على أنهم لم يدركوا حجم الاستياء الشعبي وخطورته على مستقبل النظام السياسي برمته. الحل الذي ينشده الناس ليس جذرياً بحيث يلغي النظام، بل هو حل وسط يتضمن تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة، يقرها ويراقبها مجلس النواب المنتخب، ويترأسها رئيس الوزراء المنتخب، وتعمل وفق النظام الدستوري، الذي يتولى رئيس الجمهورية المنتخب رعايته وحمايته، بينما تتولى محكمة اتحادية، أقرها الدستور المصادق عليه شعبياً، صيانة النظام والقوانين والتأكد من سلامة اتفاقها مع الدستور.
هذا الحل عملي ودستوري ويبقي على النظام الديموقراطي بل يرسِّخه ويعيد ثقة الناس به. فإن لم يقبل السياسيون به فإنهم يخاطرون بزعزعة النظام الذي يتمسكون به حالياً. لا شك في أن تفعيل الاستحقاق الانتخابي مهم في النظام الديموقراطي في الظروف الطبيعية، ومن حق السياسيين الفائزين في الانتخابات، أن يتسلموا الحكم وينفذوا السياسات التي وعدوا بها ناخبيهم، إلا أن العراق يمر حالياً بظروف استثنائية تستدعي التضحية السياسية، وقد تخلى سياسيون منتخبون في بلدان أخرى عن مواقعهم في ظروف معينة كي يتولاها غيرهم من أهل الكفاءة والخبرة حتى تجاوز البلد أزمته وعاد إلى وضعه الطبيعي. استقرار النظام السياسي الذي يحقق مصالح الناس أهم وأولى من بقاء الأشخاص أو الأحزاب في السلطة، لأن أي خلل ينتاب الأول سيطيح بالثاني ويحدث أضراراً لن تتوقف عند حد معين.
المطلوب من الأحزاب السياسية الممثلة بالبرلمان أن تدرك أن الوضع الذي تمر به البلاد استثنائي وخطير وأن الأوضاع الحالية التي تتسم بالتلكؤ والفساد والفشل غير قابلة للاستمرار، وأن هناك حلين لا ثالث لهما، الأول هو التضحية بالمواقع والمكاسب حتى تستقيم الأوضاع وتُذلل مشاكل الناس وتتحقق مصالحهم ويعود الأمن والاستقرار والخدمات الأساسية، والثاني هو المستقبل المجهول الذي قد يتضمن انهيار النظام والدخول في نفق مظلم له أول وليس له آخِر.
الاحتجاجت الحالية التي بلغت مرحلة خطيرة عند دخول المحتجين مبنى البرلمان، لن تنتهي إلا بتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، كلياً وليس جزئياً، وهذا هو حبل النجاة الذي يمده المحتجون إلى النظام ككل وعلى السياسيين اغتنام هذه الفرصة من أجل تهدئة الأوضاع وتحسين أداء الحكومة وإصلاح النظام من الداخل وإلغاء كل أشكال التمييز بين المواطنين.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة