الباحث والمؤرخ اللبناني أحمد بيضون: اللغوي الحاذق ينحت أدبًا فايسبوكيًّا
كتاب "الفسبكات" إصداره الجديد بعد "دفتر الفسبكة"
يشمل "الفسبكات" تعليقات أحمد بيضون على جداره الفايسبوكي، فالمؤلف، هو أحد أبرز الناشطين بين المثقفين اللبنانيين في تأليف فن "الستاتوس".
أصدر الكاتب اللبناني أحمد بيضون، أستاذ علم اجتماع المعرفة والمفكر السياسي والمؤرخ واللغوي المعروف، كتاب "الفسبكات"، عن دار "شرق الكتاب" (بيروت). وهو الدفتر الثاني مما أسماه "دفتر الفسبكة: نتف من سيرة البال والخاطر".
ويشمل الكتاب، كما يدل عنوانه، معظم ما كتبه بيضون على جداره الفايسبوكي خلال العامين المنصرمين. فالمؤلف، هو أحد أبرز الناشطين بين المثقفين اللبنانيين في كتابة وتأليف فن "الستاتوس" (أو "البوست")، وهو من أمهر الشاغلين على صقل فن كتابة الخاطرة الفايسبوكية، بوصفها جنسًا جديدًا في الكتابة والتواصل، بما يتناسب مع التقنيات والمساحة التي يوفرها الجدار الفايسبوكي.
أذكر حين كنت أقرأ قبل 25 سنة "ديوان الأخلاط والأمزجة"، أني تعجّبت من قوة الطرافة المتأتية من رصانة الكتابة، فالرصين كنت أحسبه هكذًا متجهمًا وعبوسًا، وحينها أيضًا استغربت كيف لباحث ومؤرخ وقور أن "يلعب" شعرًا عاميًا وفصيحًا، هو في الحالتين شعر يستأنف نكهة تراثية تتجاهل شروط الشعر الحداثوي ونظرياته.
طوال ربع قرن كان التعجب رديفًا للإعجاب، فـ"شيخ مثقفينا" (كما يحلو لكثيرين منا نعت أحمد بيضون)، لا يتوقف عن اللعب الرصين، عن مزج دقة الكلام وصواب العبارة بخفة المزاح ورونق الحبور، فنحن بوسعنا أن نجد الضحك حتى في مؤلفاته السياسية، وفي أبحاثه اللغوية وفي مساهماته بعلم الاجتماع والتأريخ.
عن الطرافة والضحك، قد نتذكر هنا مزاج نيتشه الخطر، لكنني أميل أكثر إلى تذكر قصة كتاب الضحك لأرسطو في رواية "اسم الوردة". الضحك الذي يحررنا من الخوف، رديف المعرفة، صنو الروح الإنساني، والملازم دومًا لمخاتلات العقل.
أظن أيضًا أن كتابة بيضون لا تتأتى من براعة وحذاقة وسعة اطلاع وحسب، لكن أيضًا من سمة شخصية هي "التهذيب" بمعناها الأصلي، أي الحكمة والحنكة وحسن تدبير، هذا ما يمنحه، بين ندرة، معرفة حدود الجد والهزل، ما يسعفه دومًا على منح الرصانة قدرة المداعبة والألفة والطرافة والسخرية الخالية من الأذى. فصنيعه في الكلام يكاد يكون حميمًا ولطيفًا، ولا يخلو مما نسميه عادة بـ"اللغة الديبلوماسية"، حتى في عبارات الغضب والاستنكار والسخط، نرى أن أناقة التعبير تكبح احتمال الشتيمة.
عَلَم المعاني والمباني، كما وصفته الجامعة الأنطونية، المجرِّب دومًا ضروب الكتابة وأنواعها، عدا السيرة الروائية الذاتية، التي نطمع أن ينجزها في مستقبل قريب، فاجأنا قبل عامين بكتاب "دفتر الفسبكة". فنحن أهل الفايسبوك، أو "الفسابكة" كما اجترح بيضون ونحت، لم يمض على انشغالنا وتجربتنا في الفضاء الافتراضي حينها أكثر من ثلاث سنوات، معظمنا ابتدأ في الانضمام إلى هذا النادي الكوني في العام 2010 تقريبًا، وفي السنة الأولى لم ندر حقًا كيف نتفاعل مع هذا الوسيط الجديد في التواصل، لكن في العام 2011، صرنا نقول لأحدهم باستنكار: "ألم تدخل بعد إلى الفيسبوك وتنشئ صفحتك؟" كأننا بذلك نوحي بأنه لا يتخلّف عن زمن الكومبيوتر وحسب، بل أيضًا يتخلّف عن اللحاق بالثورات العربية نفسها، كأننا نتهمه بأنه عديم الصلة بالواقع وليس فقط بالتكنولوجيا، وكنا نحسب أن الواقع الثوري والوقائع السياسية؛ إذ يؤلفان مستقبلًا وفق مشتهانا، فإن "الفيسبوك" ذاته يصنع بدوره ذاك الواقع وتلك الوقائع، هو الرابط بين الفكرة والرأي والحقيقة، هو الفعل واللغة والسياسة والإعلام، بقدر ما هو "الاجتماع" ذاته، طالما فيه "تحضر" هوية كل فرد، وبه يتمرأى الأنا والآخر.
بدا أن شرط تحقيق انتصار سياسي، أو تغليب رأي، أو صنع وجهة نظر تكسب العقول والقلوب لا يكون بمؤتمر صحافي مثلًا، ولا بكتابة مقالة أو إطلالة تلفزيونية وحسب، بل ثمة فن جديد آسر، تلزمه مهارة لغوية خاصة، وموهبة، وثقافة وفطنة: كتابة الستاتوس. هكذا وجدنا لأنفسنا مهمة جديدة وعملًا إضافيًّا، أي الانهماك اليومي بالكتابة والقراءة في الفيسبوك، أو بالأحرى، ووفق لغته: الستاتوس، اللايك، المشاركة، التعليق.. حيث يتداخل باستمرار الشخصي والعام تداخلًا حميمًا.
قبل الثورات العربية، كان عهدنا بالفيسبوك قريبًا، بالكاد ندرك له وظيفة ودورًا، ونحسبه من غوايات المراهقة والتسلية والثرثرة المجانية وخلو الوقت، وبابًا لـ"التعارف" أشبه بما كان قديمًا هواية المراسلة البريدية، طالما أننا نعرف أن مبرمجه مارك زوكربيرغ ابتكره أصلًا للتعارف ما بين طلاب جامعته، لكننا منذ العام 2011 انتمينا إليه باندفاعة جماعية، مؤمنين بأننا فيه نبقى على قيد الوجود، نجاري الزمن ونحياه، وفيه نؤلف وقائعنا وواقعنا، كانت علاقتنا بالفيسبوك شديدة الجدية، نداوم فيه ونعمل ونجتهد، بالتزام أشبه بشعور الواجب تجاه النفس وتجاه الآخرين، هو تظاهرتنا وهو مقالتنا، وهو ذخيرتنا في كل المعارك والنزاعات والسجالات، هو الشأن العام والسياسة و"النشاط"، وبقدر ما هو مكان سهرتنا أو جلستنا الصباحية، هو كذلك صحيفتنا أو حتى اجتماعنا السياسي، أو مطالعتنا الثقافية.. وعلى هذا النحو كان الفيسبوك هو الواقع، صانع الوقائع والرأي العام والسياسة... والثورات.
في تلك الفترة تمامًا، أسعفنا في هذا المسار، اقتراح أحمد بيضون في صوغ إسلوب أدبي – ثقافي – سياسي لكتابة الخاطرة أو عرض حال أو الستاتوس أو البوست. "تهذيب" فن الستاتوس وتطويره كجنس أدبي وليد، يخضع لسرعة الزمن الفايسبوكي وكثافته، يخضع لشرط الاختصار واكتمال المعنى بأقل عدد من الكلمات، كما يخضع لفن الطرافة ورقي التعبير ومهارة السخرية والكاريكاتورية.
ونحن، الذين منحنا أحمد بيضون اسمَنا الجديد "الفسابكة"، بتنا اليوم منهكين، متبرمين، ومتذمرين، ليس من الفيسبوك، بل مما آلت إليه أمورنا وأحوال بلدنا لبنان العالق في اللامعنى وإدقاعه السياسي وتهافت اللغة فيه وانحطاط آداب التواصل، وانقلاب التفاؤل إلى تشاؤم قاتم مما يجري في دولنا العربية، وتزامن كل هذا مع تراكم القنوط من الحال اللبنانية وضحالة السجال السياسي فيه واستوائه على التفاهة وفراغه من أي معنى، وإذ يسود راهنًا ذاك الشعور أن الفيسبوك وصل إلى ذروته، وبدأ يستنفد وظيفته ودوره وصار مصدرًا للمزيد من التبرم والإحساس باللاجدوى المرهق... أخذ بعضنا ينسحب منه ويدخل في صمت إلكتروني، إيحاء بـ"مراجعة" للذات، وبعضنا الآخر بات متكاسلًا قليل المساهمة، حائرًا ومرتبكًا، وثمة من عاد بالفيسبوك إلى حاله الأولى، كأن يكتفي بنشر صورة عائلية مثلًا أو يضع مرة في الأسبوع رابطًا لمقالته في صحيفة وحسب.
مثال هذا التاريخ الموجز والمكثف هو كتاب "الفسبكات"، على يد أبرع الفسابكة وأسرعهم في التجدد وشيخهم من غير منازع.
aXA6IDMuMTQxLjcuMTY1IA== جزيرة ام اند امز