الاقتصاد غير الرسمي أحد أهم الظواهر التي تواجه البلدان التي تعرضت لتحولات عنيفة في نظامها الاقتصادي.
الاقتصاد غير الرسمي أحد أهم الظواهر التي تواجه البلدان التي تعرضت لتحولات عنيفة في نظامها الاقتصادي.. تحولات متناقضة وحادة ليس فيها أي تراكم أو تطور منطقي... كيف؟
على مدى أكثر من مئتي سنة؛ عرف الاقتصاد المصري أشكالا عدة من التنظيم الاقتصادي، ما إن يستقر شكل من الأشكال حتى نجده يتحول تحولا حادًّا من النقيض إلى النقيض، فمن دولة اقتصادها مركزي تلعب فيه الدولة دور الإقطاعي الأكبر والصانع الأوحد، إلى دولة تشهد حرية اقتصادية تتخلق فيها مساحات لبزوغ رأسمالية وطنية تبادر بالتصنيع، سرعان ما تترك فيه لمنافسة الأجانب، في ظل اقتصاد مختلط يعمل على حصار الرأسمالية الوطنية الناشئة، إلى رأسمالية دولة وحركة تصنيع ممتدة، إلى انفتاح اقتصادي يقوم على التوكيلات والاستيراد وحصار المشروع التنموي الوطني.
فى هذا السياق؛ لجأ المواطنون إلى ممارسة أنشطة اقتصادية بعيدا عن الدولة، خصوصا أن كل تحول اقتصادي تاريخي رافقته تشريعات وتنظيمات جديدة، عوقت أكثر مما يسرت الفاعلية الاقتصادية، حتى في ظل ما يطلق عليه الاقتصاد الحر والسوق المفتوحة، ومن ثم تنامى الاقتصاد غير الرسمي بشكل غير مسبوق في تاريخ مصر، وظهر حضوره الواضح في السنوات الخمس الأخيرة من خلال انتشار أنشطة القطاع غير الرسمي في مختلف القطاعات الاقتصادية، فلقد استطاع الاقتصاد غير الرسمي تحمل تعثرات القطاع الرسمي والخاص، إلا أنه من الأهمية بمكان التنبه أن هذا القطاع غير الرسمي هو نتاج التحولات الاقتصادية الحادة على مدى عقود، لذا حرصنا أن نلفت النظر أن الاقتصاد غير الرسمي هو نتاج مسار تاريخي مشوه، والمفارقة أن يصبح الاقتصاد غير الرسمي سندًا في وقت التعثر، ولكن هل يمكن أن يستمر الحال على ما هو عليه؟
يجيب عن هذا الموضوع؛ المعالجات المتميزة –الشبابية- التي تضمنها عدد أكتوبر من سلسلة بدائل التي يصدرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والتي تشرف عليها د. إيمان رجب، ناقشت «بدائل» قضية الاقتصاد غير الرسمي من خلال دراسة متميزة عنوانها: «الاقتصاد غير الرسمي: مداخل الدمج الآمن للاقتصاد غير الرسمي في مصر»، للباحثين إبراهيم الغيطاني، وأسماء الخولي، حيث نبدأ بعرض الإطار العام للمشكلة، ونستكمل تقديم تصور حل للإشكالية في مقالنا القادم.
تشير إيمان رجب في تصديرها للدراسة إلى ما يلي: "شغلت قضية الاقتصاد غير الرسمي العديد من دوائر صنع السياسات في مصر منذ عقود، دون أن ينتج عن ذلك تبنى مدخل واضح للتعامل معه، سواء من حيث دمجه في الاقتصاد الرسمي، أو تقنين وضعه كاقتصاد مواز للاقتصاد الرسمي، أو الحد من تضخم حجمه، سواء من حيث الأنشطة التي تمارس فيه أو من حيث العاملين الذين يجذبهم، حيث يبلغ حجم هذا القطاع ما يعادل 40% من الناتج المحلي، بعدد 2٫7 مليون كيان، يوظفون خمسة ملايين عامل" (في الدراسة التفصيلية: يشير الباحثان الغيطاني، والخولي إلى تقديرات تقدر حجم العمالة بثمانية ملايين عامل)، كما تقول: "ويعد القطاع غير الرسمي من القطاعات ذات التأثير المختلط على الوضع الاقتصادي في مصر، لاسيما وأن أنشطته أصبحت في تضخم، وتوجد في كل مكان، سواء في صورة أعمال غير رسمية أو توظيف غير رسمي أو تعاقدات غير رسمية أو ملكية غير رسمية".
يثير هذا المدخل التمهيدي للإشكالية عدة ملاحظات -نلتقطها من نص المقدمة- كما يلي: الأولي: هو أن عدد العاملين في القطاع غير الرسمي يعادلون تقريبا عدد العاملين في القطاع الحكومي الرسمي، أي أن هناك نشاطات اقتصادية قادرة على استيعاب أعداد كبيرة من الكتلة السكانية الضخمة، الثانية: هو إمكانية نجاح المصريين في أن ينشطوا في أعمال متنوعة شريطة أن يكونوا بمنأى عن أية قيود إدارية أو لائحية، وتأمين التحايل عليها، ما يعد -بحسب إيمان رجب- مؤشرا على رواج فكرة المشاريع متناهية الصغر عند شريحة ما في المجتمع، ولكن وفق معايير تختلف عن تلك التي تفرضها الحكومة، الثالثة: باتت أنشطة القطاع غير الرسمي "متنفسا يستطيع من خلاله المواطن غير القادر على الحصول على عمل ملائم في القطاع الرسمي بشقيه الخاص والحكومي، ممارسة عمل ما بأجر"، ويمكن أن أضيف في هذا المقام، سرعة الحصول على عمل بعيدا عن شروط التعيين الحكومي البيروقراطية البطيئة وغير العادلة -أحيانا- حيث تذهب الوظيفة لمن لا يستحق.
إلا أن هذه الملاحظات على صحتها لا تعنى القبول بالوضع القائم باعتباره حلا ناجعا، ذلك لأن تقدم الأوطان لا يمكن أن يقوم في ظل واقع من هذا النوع، لأن نجاح القطاع غير الرسمي هو الوجه الآخر من فشل إحداث تطور/ تراكم اقتصادي، وأي مشروع تنموي شامل وجاد لا يمكن أن يتعايش مع الاقتصاد غير الرسمي أو الاقتصاد غير المنظم، أو الاقتصاد الرمادي، أو اقتصاد الظل... ونتابع..
ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة