مع اقتراب نهاية عام جديد، من المناسب أن يقيّم الشعب المصري إنجازاتنا وإخفاقاتناعلى المستويين الداخلي والخارجي
مع اقتراب نهاية عام جديد، من المناسب أن يقيّم الشعب المصري إنجازاتنا وإخفاقاتنا على المستويين الداخلي والخارجي، بعد استكمال خريطة الطريق بانتخاب البرلمان المصري الجديد، وفي ظل أحداث عديدة في الشرق الأوسط، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الإرهاب السرطاني من ناحية، واجتماع فيينا الأخير بشأن سوريا، الذي جمع كل الأطراف الأجنبية على مائدة تفاوض واحدة من ناحية أخرى.
ويلاحظ أن مؤيدي ثورتي 30 يونيو و25 يناير يجمعهم كثير من العناصر المشتركة، رغم كل محاولات الفرقة بينهما، واختلاف بعض منهم حول الرؤى التفصيلية للبلاد، منها رفض كليهما للحالة المصرية قبل 2011 و2013 مباشرةً، ورغبة شعبية ومؤسسية واسعة للمشاركة في تحديد مستقبل مصر، والسعي لتوفير حياة حرة عادلة وكريمة للمواطن المصري، والرغبة في ضمان حرية القرار المصري خارجيًّا واستعادة مكانتها الاقليمية والدولية.
وأعتقد، وهذا هو الأهم، أن مؤيدي الثورتين -وأنا منهم- سيخلصون في تقييمهم إلى أنه قد تمت إزالة رموز الحالة التي كانوا يرفضونها، ومع هذا ينتابهم إحباط من أن طموحاتهم الكبيرة لم تتحقق بالقدر الكافي بعد مرور خمسة أعوام تقريبًا على الثورة الأولى، وأكثر من عامين على الثانية.
هناك بالفعل إنجازات ومشروعات تحققت، ويجب عدم التهوين منها، ورغم بعض الاختلافات الحادة بين مطالب النشطاء في ثورتي 25 يناير و30 يونيو، من أصحاب الصوت الأعلى، فما يزعجني حقًّا هو شعور الوسط السياسي للثورتين أيضًا بعدم الارتياح لما وصلت إليه أمورنا المصرية، الذي ترجم إلى مشاركة شعبية ضعيفة في الانتخابات البرلمانية المصرية، لم يطرح فيها المرشحون آراءهم السياسية، أو يعلنوا عن مواقفهم، وانتشر المال السياسي كأننا ننتخب مندوبين لتخليص الأعمال بدلًا من مرشحين وفقًا لرؤية سياسية، والمفترض أن تكون الانتخابات عرسًا لمؤيدي ثورة 25يناير الداعمين لإقامة نظام سياسي جديد، واحتفالًا لمؤيدي ثورة 30 يونيو باعتبارها المرحلة الخاتمة والناجزة لخريطة الطريق، وخطوة تعيد المؤسسات المصرية إلى وضعها الطبيعي.
لا غنى عن العمل الدؤوب والتفاني، حبًّا في الوطن، وتأكيدا لصحوة الضمير، ولأن الاجتهاد هو السبيل الوحيد لتحقيق حتى الحد الأدنى من طموحاتنا والتصدي للمخاطر حولنا.
من الضروري تعضيد وتوضيح الخطاب السياسي لتنوير المواطنين، وليكون أساسا ومعيارا للأداء التنفيذي للحكومة، وفقًا لتصور معلن للرؤية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما لم نره بالدرجة المطلوبة، عدا أننا في حرب ضد الإرهاب، ولا خلاف حول ذلك في حال وضوح وصراحة الخطاب السياسي مسبقًا.
لم تعد الظروف تحتمل العودة إلى اللا مبالاة أو الغموض، في ظل مخاطر جمة، وتحديات كثيرة خارجية وداخلية، وهو ما يفرض علينا أيضًا السعي إلى لمّ الشمل المصري والعمل معا، في إطار منظومة سياسية مدنية جامعة للآراء المختلفة، حتى وإن اختلفنا حول بعض المواقف والمجالات، ولا أعني بهذا ضرورةً الاصطفاف حول موقف سياسي واحد، فلا مانع من اختلاف الرؤى، بل أراه مفيدًا، وإنما أدعو إلى الالتفاف حول المبادئ الرئيسية للدستور المدني، وعلى القيادة السياسية أخذ مبادرة لم شمل مؤيدي الثورتين حول النظام السياسي المدني المصري، بصرف النظر عن اختلاف الرؤى حول بعض التفاصيل، وأقترح:
أولًا- إلقاء خطاب للأمة بعد انتهاء الانتخابات البرلمانية مباشرةً، يتناول أقصى المخاطر مثل الإرهاب وأهم التحديات، ويركز على تصور للنظام السياسي لمصر الحديثة والعقد الاجتماعي مع الشعب، وعلى ضرورة لم شمل المجتمع المصري، مع احترام الرأي والرأي الآخر، وقد تكون مناسبة للإفراج عن عدد من المحبوسين احتياطيًّا لمدة طويلة دون توجيه اتهام إليهم، ولتكون رسالةً وتوجيهًا للحكومة الحالية بجميع مؤسساتها، أو أي حكومات قادمة، بضرورة العمل بمعدلات أسرع، وشفافية أوسع، واحترام للمواطن المصري أيًّا كان مستواه الاجتماعي أو رأيه السياسي.
ثانيًا- إجراء حوار وطني بين التيار الوسطي من مؤيدي 25 يناير و30 يونيو، وكل من يحترم الدستور، حول عدد من القضايا الحساسة، مثل توازن السلطات بين المؤسسات المصرية، وسياسات الدولة تجاه الأعباء الاقتصادية للكادحين، ومدى التزامها بقواعد الاقتصاد الحر، والمتطلبات اللازمة لمواجهة الإرهاب، والحريات الشخصية والمدنية، ودور الدين في السياسة. فهي قضايا يتم مناقشتها إعلاميًّا وفي مجالس ومحافل كثيرة، وإنما بشكل عصبي استقطابي وغير مجدٍ.
هناك كثير من عناصر الاتفاق بين ثورتي 25 يناير و30 يونيو بالنسبة إلى علاقات مصر الخارجية، من حيث ضرورة العمل على توافر البدائل المصرية. والاهتمام بإعادة الريادة المصرية إقليميًّا، وهو المنهج السياسي الذي تم اتباعه رسميًّا والمضيّ عليه منذ منتصف يوليو 2013. ولن تجد الدولة صعوبة في حشد المواطنين لدعم الخطوط العامة لسياستها الخارجية في مواجهة الأحداث الخطيرة التي يتعرض لها الشرق الأوسط.
كما لن يختلف أحد على أن هذه المنطقة وعالمنا العربي يشهدان تغيرات جذرية في توازن القوى، لمصلحة الأطراف غير العربية، خصوصًا إيران وتركيا وإسرائيل، وأن الهوية الوطنية العربية ذاتها في خطر لحساب الانتماءات العرقية، أو الطائفية، أو الدينية، أو المذهبية، بكل ما يحمله ذلك من مخاطر وعوامل عدم الاستقرار على المصالح المصرية ودورها التقليدي. وشهدت حدودنا الغربية والشرقية والجنوبية اضطرابات ومخاطر متواصلة، ليبيًّا، وفلسطينيًّا، وسودانيًّا، فضلًا عن توتر عام مع الدول الغربية بعد ثورة 2013، واندلاع نزاعات لها انعكاس مباشر على الأمن القومي المصري والهوية العربية، في لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وانتشار التطرف والإرهاب عبر المنطقة بأكملها، امتد إلى قارات أخرى. ولا أتذكر فترة في تاريخ مصر الحديث واجهنا هذا العدد من المشاكل الخطيرة في آن واحد.
هناك بين الحين والآخر تآمر من بعض الأطراف، الذين من مصلحتهم إضعاف الهوية العربية، وغنيّ عن القول أن السياسة الأمريكية في تفتيت العراق وإعادة تشكيله على نمط عرقي وطائفي ساعد على إضعاف مركزية الدولة، وشجع الدفوع بالهوية العرقية، كما أن تدخل الحلف الأطلنطي في ليبيا ثم ترْك البلد يتفتت داخليًّا فور القضاء على القذافي من الأخطاء الفادحة التي فتحت أبواب جهنم على حدودنا الغربية.
وإنما لن تصان المصلحة العربية أو المصرية من موقع رد الفعل للأحداث، أو بتعليق مسؤولية المشاكل على شماعة المؤامرة الكبرى أو أخطاء الغير، وهو ما أصبح سائدًا في إعلامنا، وعلينا عدم إغفال أن الإسلام السياسي العنيف موطنه الأساسي هو العالم العربي والإسلامي، قبل أن يُستخدم أمريكيًّا ضد السوفييت في أفغانستان منذ سنوات، بالتعاون مع دول عربية، أو أن الاعتماد المبالغ فيه على الولايات المتحدة جعل بعض العرب يؤيد صراحةً أو ضمنيًّا الغزو الأمريكي لدولة العراق، وأننا جميعًا تعايشنا مع القذافي أكثر من أربعين عامًا، فضلًا عن إغفال العرب الحصول على ضوابط واضحة على العمليات العسكرية في ليبيا من الحلف الأطلنطي، أو تفاهمات خطط التأمين وإعادة الإعمار بعدها.
إذا كان المجتمع الدولي مخطئا، فمسئولية العالم العربي في ما وصلت إليه الأمور هي الأساس، لأننا اعتمدنا على الغير في الغرب والشرق في قضايا أمننا القومي، دون طرح رؤية سياسية لأغلب هذه القضايا، عدا اقتراح مجلس التعاون الخليجي حول اليمن، والذي هدمه علي عبد الله صالح، وتركنا ليبيا، والعراق، وسوريا، والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في فراغ عربي سياسي، وأصبح العرب متنازعين على الأرض، داعمين لتيارات مختلفة داخل أراضٍ عربية. فاختُصرت الدعوة على السعودية في الاجتماعات الرئيسية حول سوريا في باريس وفيينا، قبل توسيعها إلى 17دولة، ويقوم مبعوث أممي بالتفاوض حول ليبيا دون مشاركة عربية، وآخر بالنسبة إلى اليمن.
بكل صراحة إن السلبية العربية وغياب الفكر والطرح الدبلوماسي العربي أخطر علينا بكثير من أي تآمر أو مؤامرة تحاك ضدنا، لأن سلبيتنا وغموض مواقفنا يجعلان المنطقة بأكملها تصاغ وفقًا لأجندات أجنبية، وعلى أسس عرقية وطائفية ومذهبية بيننا.
للأسف أصبح المجتمع الدولي ينظر إلى العالم العربي على أنها منطقة شبه منهارة وجزء من المشاكل الإقليمية والدولية، ولن يتجاوز دورها في تمويل نفقات الحل، كان ذلك بالنسبة إلى اللاجئين، أو إعادة إعمار سوريا واليمن وليبيا.
إزاء ذلك يجب أن تكون لدينا رؤية مستقبلية ثاقبة شاملة ومحكمة، لمواجهة المخاطر واستغلال الفرص المتاحة، ويتطلب هذا إطلاق رسالة سياسية معلنة وواضحة، وممارسة دبلوماسية نشطة ومرنة ومبادرة.
قمت في الأسابيع الأخيرة بجولة خارجية أخذتني إلى الصين والولايات المتحدة وعدد من الدول العربية الخليجية، قابلت خلالها مسؤوليها وشخصيات دولية عديدة نقلوا لي قلقًا دوليًّا واسعًا تجاه العالم العربي عامةً، ووجدت رغبة حقيقية في التعاون مع مصر في بناء مستقبل أفضل للمنطقة، وحتى ضمن من لم يكونوا مرتاحين لثورة 30يونيو، غير أن هذه الرغبة كانت مصحوبة أيضًا بتشكيك متكرر من قبل عدد غير قليل، بما فيهم بعض الدول العربية، حول قدرتنا على القيام بدور ريادي إقليمي، فتظل الضغوط التي تواجهنا داخليًّا.
واستمعت إلى بعض التساؤلات الجادة حول حقيقة رغبة مصر في استعادة هذا الدور، في ظل غياب أي مبادرات مصرية حول القضايا العربية الإقليمية، رغم جولات الرئيس الخارجية. وقد لفت نظري تكرار الملاحظات من بعض الإخوة العرب عن ندرة «القضايا العربية» في الخطاب الخارجي المصري، وتركيزه أولًا وأخيرًا على قضية الإرهاب. وهو ما دفعهم إلى التساؤل عن البعد العربي السياسي للدبلوماسية المصرية، وشكك البعض خطًأ في استعداد مصر تحمل مسؤوليتها الإقليمية، وأخطأ آخر ونفى تصورهم أن مصر عليها أن تكون شرطي المنطقة العربية وحاميها الوحيد.
تفرض المصلحة المصرية أن نكون أكثر وضوحًا في مواقفنا، حتى لا يترنح الشعب المصري بين التفاؤل المفرط في حل القضايا مثل قضية سد النهضة لمجرد توقيع الإعلان الثلاثي، وسرعة التفكير في عمل عسكري مع تعثر المفاوضات واستمرار معدلات بناء السد، رغم أنها مفاوضات تحتاج إلى مراجعة دقيقة ووقفة صريحة قبل فوات الأوان.
علينا مصارحة الشعب حتى لا يتخبط بين عداء غير مبرّر أو منطقي للغرب، وغرام غير واقعي أو مؤسِّس للبدائل الأخرى، ثم يفاجأ ويُحبط عندما تلتقي الأطراف حول سوريا دون مشاركتنا، أو تصدر أحكام حادث الطائرة الروسية، دون التشاور معنا، أو حتى إبلاغنا بكل المعلومات الموجودة لديهم حول حادث وقع على أراضينا، بغضّ النظر عن أن مصر كان عليها الأخذ بزمام المبادرة، بالتصريح والإعلان عن تفاصيل الحادث كلما تبلورت، حتى لا تشعر مجتمعاتنا أن هناك من يتآمر ضدنا، أو يتصور الغير أننا نتجنب التعامل مع الأحداث بشفافية.. المطلوب أن نطرح منهجية تحركنا الخارجي في شكل استراتيجية عمل خارجية على أسس واضحة، حتى يطمئن الصديق لدعمنا الحقيقي له وفقًا لمفهومنا، ويُردع العدو عن تجاوزات في شأن مصالحنا، وليحسب لنا حسابًا في إعادة بلورة المعادلة الدولية والإقليمية، ومن الأهمية أن نتيقن في هذا السياق أنه رغم ارتفاع نبرة التوتر بين روسيا وأمريكا والأزمات المفاجئة مثل إسقاط تركيا للطائرة الروسية على حدودها، فلا يرغب أحد العودة إلى الحرب الباردة، أو الدخول في صدامات لا داعي لها، ومع استمرار تنافسهم الشرس فضلوا لغة الحوار حول إيران، وسوريا، والإرهاب.
خلاصتي إذن بالنسبة إلى السياسات الخارجية، هي نفس ما استخلصتُه حول السياسات الداخلية، وهي أن هناك تقدمًا وقلقًا، ومطلوب من الجميع الاجتهاد وطرح المبادرات الدبلوماسية حول القضايا الإقليمية كطرف فاعل، والساحة اليمنية تحديدًا مجال مناسب الآن لمبادرة مصرية كرئيس القمة العربية وبعد إعلان قرب انتهاء العمليات العسكرية المشتركة، وإنما من الأهمية أيضًا ودون تأخير، طرح تصورنا للشرق الأوسط ودورنا وتحركنا، وبقدر أكبر من العلنية والتفصيل، كطرف له رؤية متعددة العناصر، وصاحب برنامج عمل للأعوام القادمة، لموازنة الرؤية التركية، والإيرانية، والإسرائيلية، أو رؤى بعض الدول العربية، حتى نؤمّن مصالحنا ونتخذ خطوات نحو استعادة ريادتنا بالفكر المتطور والعمل الجاد.
*يُنشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "الأهرام" وبوابة "العين" الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة