فى 1914 تسببت حادثة اغتيال واحدة وقعت في إقليم البلقان المتوتر في دفع صراعات القوى الأوروبية إلى نقطة اللا رجوع.
في 1914، تسببت حادثة اغتيال واحدة وقعت في إقليم البلقان المتوتر في دفع صراعات القوى الأوروبية إلى نقطة اللا رجوع وأشعلت فتيل الحرب العالمية الأولى. في 2015، تنتشر خرائط الدماء والدمار والعنف في بلاد العرب ومنها إلى مناطق قريبة منها وبعيدة عنها، على نحو يهدد السلم والأمن العالميين ويورط القوى الكبرى في صراعات عسكرية وسياسية مفتوحة وخطيرة للغاية.
وكما كانت أرض الشام المسرح الشرق أوسطى الرئيسي لمواجهات الحرب العالمية الأولى، تعود شعوبها في 2015 لتعاني أكثر من شعوب العرب الأخرى من ويلات الصراع.
في سوريا، ديكتاتور دموي يرتكب منذ 2011 جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة ضد شعب ثار مطالبًا بالحرية، وتُعين الديكتاتور على جرائمه قوة كبرى هي روسيا، وقوة إقليمية هي إيران، وقوة غير حكومية فائقة التسليح هي حزب الله اللبناني.
وتعتاش على جرائم الأسد ونظامه عصابات مسلحة أفسدت الطابع السلمي للثورة السورية، واستحوذت على موارد عسكرية ومالية وتنظيمية مكّنتها منها بخليط من الطرق المباشرة وغير المباشرة الحكومة الأمريكية وبعض الحكومات الأوروبية والحكومة التركية وبعض حكام الخليج، وبعض هذه العصابات يتورط في جرائم قتل وممارسات عنف ضد المدنيين شأنه شأن الديكتاتور.
وتستفيد من جرائم الأسد وجرائم بعض مقاومي حكمه، وتنخرط في الصراعات الدائرة بدموية ووحشية غير مسبوقتين عصابة "داعش" الإرهابية التي تمددت من الأرض العراقية إلى سوريا وانتزعت السيطرة الميدانية على بعض المناطق السورية. وبعد أن مكّنها نظام الأسد من الوجود على الأرض، من جهة لتشويه الثورة وتعميم وصف «الإرهابي» على جميع معارضي الديكتاتور ومن جهة أخرى لتوريط المعارضين في حروب إلغاء وصراعات تصفية متبادلة، تغولت عصابة "داعش" وتحولت إلى المواجهة الدموية مع الديكتاتور وتجاوزت أيضا الخطوط الحمراء التي كانت جهات التسليح/ التمويل الغربية والشرق أوسطية والعربية قد وضعتها لها.
في «الحرب على داعش»، ومسرح الحرب الأساسي هو الأرض السورية، تشارك اليوم الولايات المتحدة الأمريكية خوفًا من استمرار الامتداد الإقليمي والعالمي للعصابة التي أضحت حاضرة في سيناء المصرية وفى اليمن وفى ليبيا وباتت قادرة على تنفيذ جرائم إرهابية على نطاق عالمي. في «الحرب على داعش» تشارك فرنسا ومعها بعض الحلفاء الأوروبيين للانتقام بعد تفجيرات باريس الإرهابية، ولاحتواء التهديدات الواردة على أمن أوروبا والمرتبطة بتجنيد العصابة لأعداد متزايدة من المواطنين الأوروبيين ذوي الأصول العربية والإسلامية. في «الحرب على داعش» تشارك روسيا التي تستهدف كل أعداء نظام الأسد، وتبحث أيضا عن الانتقام من "داعش" بعد إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء. في «الحرب على داعش» تشارك بعض الأطراف الإقليمية كتركيا والإمارات والأردن بعمليات عسكرية، وبتنسيق استخباراتي مع القوى الكبرى... وعلى الرغم من ذلك، ما زالت العصابة في وضعية صعود، وتتبدل استراتيجيتها من تثبيت وجودها على الأرض في سوريا والعراق وتنفيذ العمليات الإرهابية في عموم بلاد العرب إلى المزج بين تثبيت الوجود وبين تهديد أمن الأوروبيين وغيرهم عالميًّا.
وحصيلة جميع هذه الحروب والصراعات الدائرة في سوريا 2015 هي: أولا، شعب يعانى من ويلات القتل والدماء والدمار والتهجير والارتحال، وتغلق في وجهه مواطن اللجوء الآمنة بفعل عولمة إرهاب "داعش"، ولم يتخلص بعد من الديكتاتور ونظامه المجرم الذي ثار أملا في الخلاص منهما.
وثانيا، زوال فكرة الهوية الوطنية الجامعة للسوريين بعيدا عن هوياتهم الجزئية دينية ومذهبية وعرقية على وقع انهيار السلم الأهلي واختزال الديكتاتور للدولة الوطنية إلى آلة إجرام وقتل وقمع وطائفية.
ثالثا، اندفاع كارثي للجماعات المسلحة وعصابات الإرهاب على الأرض السورية، من "جبهة النصرة" و"أحرار الشام" إلى "داعش" وأعوانها، وامتداد خطوط تسليحها وتمويلها عبر حكومات غربية وعربية وشرق أوسطية، وتورطها في مواجهات دموية إنْ ضد نظام الأسد وحلفائه الميدانيين: حزب الله وإيران وروسيا (بالترتيب الزمنى للمشاركة في المقتلة السورية)، أو في ما بينها في حروب بالوكالة بين القوى الكبرى وبين الأطراف الإقليمية.
ورابعا، اقتراب نيران الحروب والصراعات من حوافّ مواجهات مباشرة بين القوى الكبرى وبينها وبين الأطراف الإقليمية على النحو الذي تُظهره علنًا حادثة إسقاط الجيش التركي لمقاتلة روسية، ويدلل عليه التحول النوعي في إمدادات السلاح الأمريكي المموَّلة خليجيًّا والمقدَّمة لمجموعات مناوئة للأسد والتي حالت دون أن تسفر الضربات الجوية والصاروخية الروسية ضد "داعش" و"جبهة النصرة" و"أحرار الشام" عن استعادة الأسد لتفوقه الميداني، وتبينه كذلك القوائم المتزايدة لقتلى الحرس الثوري الإيراني ولحزب الله اللبناني في مواقع سورية مختلفة.
خامسًا، حالة سيولة في المشرق العربي بفعل تداخل خطوط الحروب والصراعات وتنوع الأطراف المتورطة من قوى كبرى وإقليمية ومجموعات غير حكومية مسلحة وعصابات إرهابية، وينتج عنها من ثم ارتفاع احتمالية الحروب طويلة المدى الزمني والصراعات المفتوحة. وتتشابه حالة السيولة الراهنة مع حالة المشرق قبل مئة عام، عند نشوب الحرب العالمية الأولى وخلال سنواتها الأربع 1914 ــ 1918 التي انتهت بسقوط الدولة العثمانية، وتكوّن الدول المشرقية المعاصرة في العراق وسوريا ولبنان والأردن، ووقوع فلسطين فريسة للاستعمار الاستيطاني للحركة الصهيونية.
فى 1914، تذرعت القوى الأوروبية بحادثة اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية ــ المجرية في مدينة سراييفو البلقانية لترجمة تناقضاتها وتكالبها على المستعمرات والأسواق ومناطق النفوذ ومصادر الثروة (الموارد الطبيعية خارج أوروبا) إلى حرب بالغة الدموية رتّبت سقوط ملايين الضحايا، وغيّرت خريطة العالم فاختفت إمبراطوريات قديمة وظهرت أخرى جديدة، وتكون عديد من الدول الوطنية الحديثة كما في المشرق العربي. في 2015، قد تورِّط سيولةُ المشرق العربي القوى الكبرى والإقليمية في مواجهات غير محسوبة العواقب، وتدفع بنا وبالعالم تدريجيًّا إلى حافة هاوية الحرب الشاملة بعد أن أغرقتنا في خرائط الدماء والدمار والعنف.
يُنشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "الشروق" المصرية وبوابة "العين" الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة