إن مصر فعلًا لا تريد أن تدخل حربًا ضد إثيوبيا ليس لأنها ضعيفة وإنما لإيمانها بأن الحرب لا تحل مشكلة.
قضيتان تتعلقان بالمصالح الحيوية لمصر تناولتهما وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة بقدر كبير من المبالغات والشائعات، والسبب الأساسي عدم توافر المعلومات الحقيقية لاعتياد بعض المسؤولين المعنيين التكتم عليها.. ربما كان الهدف منع تعقيد الأمور أكثر لكن النتيجة في عصر الفضائيات والإنترنت هي البحث عن الحقيقة عند غير أهلها فتخرج مشوّهة وأحيانًا كاذبةً فتنتاب الحيرة المواطن الذى لا يعرف مَن يصدِّق فيفقد الثقة.
القضية الأولى تتعلق بالعلاقات المصرية ـ السودانية التي أكد مسؤولو البلدين أنها قوية ومتينة ولا يوجد ما يعكِّر صفوها بينما تحدثت وسائل الإعلام عن توتر بسبب مصرع عدد من السودانيين لدى محاولتهم الهروب إلى إسرائيل عبر سيناء وحبس آخرين في القاهرة بتهم مختلفة وتأجيل اجتماع الخرطوم الخاص بسد النهضة أكثر من مرة على غير رغبة مصر، ووصل حد الشائعات أنْ ادَّعى سودانيون أن مصر تفكر في دعم المعارضة السودانية لإسقاط نظام حكم الجبهة الإسلامية في الخرطوم. رغم كل هذا يؤكد بيان للخارجية المصرية عقب مباحثات هاتفية لوزيري خارجية البلدين متانة العلاقات وقوتها واتفاقهما على التحسب واليقظة لأي محاولات تستهدف تعكير صفوها وضرورة العمل المشترك والتعاون الوثيق لتجاوز المبالغات الإعلامية التي شهدتها الأيام الماضية ومواصلة توفير أكبر قدر من الرعاية لمواطني البلدين، دون أي إشارة إلى أي مشكلة مثارة! فإذا كنا نسمّي ما تمر به العلاقات "صفوًا" فأين هذا الصفاء وهناك خلافات حول مدى الضرر الذى قد يسببه سد النهضة الإثيوبي وميل الخرطوم إلى وجهة نظر إثيوبيا أكثر، وحول تنفيذ اتفاقية الحريات الأربع، وحول هروب قيادات إخوانية مصرية مطلوبة للعدالة إلى تركيا وقطر عبر الأراضي السودانية، وحول تأمين الحدود المشتركة ضد تهريب السلاح والمخدرات والمتطرفين، وما تردد عن إعاقة الخرطوم تنفيذ اقتراح مصري بتشكيل قوة مشتركة لمراقبتها إلاَّ إذا انتشرت أيضًا في منطقة حلايب وشلاتين التي يزعم السودان تبعيتها له، بالإضافة إلى ما يوصف بإساءة معاملة السودانيين والتضييق عليهم؟ وما العيب في الاعتراف بوجود خلافات بحجمها الحقيقي حول بعض المسائل حتى لا نترك فرصة لتضخيمها في وسائل الإعلام عن جهل أو سوء نية؟ ولماذا لا نعلن أن المقبوض عليهم مثلًا متهمون بكذا وتتمّ معاملتهم كأي مصري وأن المقتولين على الحدود لم يكن سهلًا القبض عليهم أحياء لأن مهربيهم بادروا بإطلاق النار وأنهم رفضوا تسليم أنفسهم حتى لا يتهمنا أحد بأننا نستخفّ بحياة البشر؟
أما القضية الأخرى التي تثير أخبارها قلق وحيرة المصريين لتضاربها فهي سد النهضة، فبينما يقول البعض إن القاهرة لم تتخذ موقفًا حازمًا لمنع بنائه قبل التأكد من أنه لن يُنقص من حصتها المائية المكتسبة في مياه النيل وأعطت إثيوبيا فرصة للشروع في بنائه والتعجيل بالانتهاء منه قبل إجراء الدراسات التي أوصى بها خبراء دوليون لتحديد ما إذا كانت له سلبيات، لم تحاول وزارة الري توضيح الموقف واكتفت بتحديد الموعد بعد الآخر لاجتماع اللجنة الثلاثية. وتلقَّف البعض تصريحًا منسوبًا إلى وزير الخارجية الإثيوبي بأن مصر أضعف من أن تدخل في حرب مع بلاده لما وصفه بضعف اقتصادها والإرهاب باعتبارهما أولويتين يجب مواجهتهما أولًا، واعتبروا التصريح بمثابة إهانة لمصر لم تكن لتحدث في عهد عبد الناصر أو السادات أو مبارك. ونقلوا عن صحيفة إثيوبية أن ذلك رد على تصريح لوزير الخارجية المصري قال فيه إن لدى مصر أوراق ضغط يمكن استخدامها ضد حكومة أديس أبابا وستكون هناك وقفة لتحليل الأمور سياسيًّا وفنيًّا.
هنا يمكن القول إن مصر فعلًا لا تريد أن تدخل حربًا ضد إثيوبيا ليس لأنها ضعيفة وإنما لإيمانها بأن الحرب لا تحل مشكلة، فضعف الاقتصاد والإرهاب لا يمنعان الدخول في حروب، بل إن بعض الحكومات تدخلها للتغطية على مشكلات داخلية لتجعل شعوبها تنساها وتلتف حولها.
أما قول الوزير الإثيوبي الذى أثار دهشة البعض ووصفوه بالخطير بأن الجانب المصري يعلم تمامًا أنه وافق على كل الاتفاقيات الخاصة بسد النهضة لكنه يُظهر لوسائل الإعلام المصرية عكس ذلك فهو قول على غرار "لا تقربوا الصلاة" دون أن يكتمل بـ"وأنتم سُكارى"، فمصر وافقت في بيان مشترك مع إثيوبيا على بناء السد لإنتاج الكهرباء وبشرط أن لا يضر بحقوقها المائية المكتسبة في مياه النيل. والبيان ينص على التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل من السد على استخدامات مصر للمياه وأن تحترم نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل بنائه وأن تتعاون مع مصر لتحقيق المكاسب المشتركة على أن تلتزم القاهرة.
*يُنشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "الأهرام" وبوابة "العين" الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة