هل كان جمال عبد الناصر ليبراليَّ التفكير بالمعنى الذى تأصلت به مبادئ الليبرالية ومفاهيمها في عقل طه حسين؟ بالقطع لا
هل كان جمال عبد الناصر ليبراليَّ التفكير بالمعنى الذى تأصلت به مبادئ الليبرالية ومفاهيمها في عقل طه حسين؟ بالقطع لا، فقد كان الاثنان على طرفي نقيض في هذا الجانب تحديدا، أولا بحكم التنشئة العسكرية لعبد الناصر، وثانيا بتأثير عمليات الثقافة التي خضع لها الاثنان، وثالثا بحكم استجابة جمال عبد الناصر إلى الشروط التاريخية المغايرة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، التي تحولت إلى تحديات حادة على كل المستويات، ومن المهم أن أذكر نفسي أنني أكتب بعد قرابة نصف قرن (بالتحديد خمسًا وأربعين سنة) على وفاة عبد الناصر، الذي أنتسب إلى زمنه بأكثر من معني، وأدين له مع الملايين بإنجازات لا تنسى، فعبد الناصر هو الذى قاد عملية إعادة توزيع الثروة القومية بما يحقق العدل الاجتماعي، وهو الذى قاد مشروع الدولة الوطنية المستقلة، وأحالها إلى مشروع دولة قومية معادية للاستعمار والرجعية على أساس مدني، وليس دينيًّا أو حتى عسكريا، وفى زمنه حققت الخطة الخمسية الأولى والثانية أهدافها التي جعلت لمصر مكانة رائدة وبارزة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، فأصبحت قبلة الباحثين عن الحرية لأوطانهم، ابتداء من جيفارا وليس انتهاء بمانديلا، وهو الذى حاول أخيرًا أن يؤسس لاشتراكية عربية، تحقق العام على أساس من الخصوصية.
وأعترف بأن وعيي النقدي لم يضع عبد الناصر موضع المساءلة إلا بعد هزيمة1967 الكارثية، التي رأيت مع كثير من أبناء جيلي أن عبد الناصر هو المسؤول الأول عنها، وحتى عندما استقال، اعترافا بخطأ فادح وإعلانا لذنب قاتل، خرجت مع الملايين لإعادته كي يزيل الكارثة التي كان سببا في صنعها، ومن يومها بدأت مساءلة عبد الناصر والناصرية على السواء، فاكتشفت أن أصل الكارثة يرجع إلى تغييب مبدأ الحرية، وبدلا من إقامة دولة تقوم على أساس من حياة ديمقراطية سليمة، تحترم ممارسة الحرية وحق الاختلاف والتعددية، أقيمت دولة تسلطية بكل ما يعنيه هذا المصطلح الذى كتبت عنه في هذه الجريدة تفصيلا في الثاني عشر من ديسمبر 2011، كما كتبت عنه من قبل في كتابي "هوامش على دفتر التنوير" (القاهرة 1994)، مؤكدا أن الدولة التسلطية هي الدولة التي تسعى إلى احتكار مصادر القوة والسلطة في المجتمع لصالح الطبقة أو النخبة الحاكمة، وتتميز هذه الدولة بأربع خصائص؛ أولاها أن الدولة التسلطية تحقق احتكار السلطة عن طريق اختراق المجتمع المدني، وتحويل مؤسساته إلى تنظيمات تضامنية تعمل بوصفها امتدادا لأجهزة الدولة، وثانيتها أن هذه الدولة تخترق النظام الاقتصادي وتلحقه بها، سواء عن طريق التأميم، أو توسيع القطاع العام والهيمنة البيروقراطية على الحياة الاقتصادية، وثالثة هذه الخصائص أن شرعية نظام الحكم في الدولة التسلطية يقوم على استعمال القوة القمعية أو التلويح بها أكثر من الاعتماد على الشرعية التقليدية، ولذلك يقترن النظام السياسي في الدولة التسلطية بعدم وجود انتخابات لها معني، كأن تكون نتائجها 99% أو ما يحوم حول ذلك، وذلك في موازاة عدم وجود تنظيمات مستقلة عن الدولة، وعدم وجود دساتير فاعلة، وتجميد الحقوق المدنية، أو تعليقها، وأخيرا، تحويل نسبة عالية من الدخل القومي إلى الإنفاق على الأجهزة القمعية لهذه الدولة.
أما الخاصية الرابعة فترتبط بالأيديولوجيا السائدة لهذه الدولة، خصوصا ما تشيعه أجهزتها الأيديولوجية من تأكيد معنى «اليقين» الملازم لما تراه النخبة الحاكمة، والإلحاح على مركزية القيادة التي تدور حول شخص الزعيم الملهم، والتضحية بمبادئ الحرية في سبيل قواعد «الوحدة»، وتأسيس التراتب الهرمى بين القيادات والمؤسسات بوصفه الوجه الآخر للتراتب العسكري، ومن ثم إلزام المرؤوس بالطاعة للرئيس، وذلك على نحو تصبح معنى جملة «حسب تعليمات السيد الرئيس» هي الأصل المتكرر في طبقات التراتب الهرمى الذى يحتل قمته السيد الرئيس، بما يجعل من هذا التراتب أصلا يؤسس «البطريركية» في كل مستويات العلاقات الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمع كله.
هذه الخاصية الأخيرة موصولة ببقية الخصائص؛ هي التي أسهمت منذ البداية، في صنع الأزمة التي تمايزت بها علاقة ثورة يوليو 1952 بالمثقفين، وأكدت توتر النقائض الذى عاق الامتزاج بين ما سماه محمد حسنين هيكل في كتابه «أزمة المثقفين» سنة 1961 بــ «قوة الدفع الثوري» أي النخبة العسكرية الحاكمة من ناحية، والمثقفين من ناحية مقابلة، حيث لم تنظر النخبة العسكرية إلى المثقفين بوصفهم مشاركين في صنع القرار منذ البداية، بل بوصفهم خبراء فنيين (تكنوقراط) أي موظفين لا عمل لهم سوى القيام بما توكل إليهم النخبة التي تحتكر آليات السلطة وتوجه أجهزتها.
وكان من الطبيعي- والأمر كذلك- أن تصطدم قوة الدفع الثوري بمجموعات الموظفين المثقفين أو المعارضين لها منذ البداية، وأن تقوم الأجهزة القمعية للدولة الناصرية برعاية مبدأ الاجماع وإزاحة الخارجين عليه، تأكيدا لتركيز السلطة أو احتكارها من ناحية، وإلغاء لمبدأ «الاختلاف» أو «التعدد» من ناحية موازية. وبدأ الأمر بحل الأحزاب ومصادرة أموالها منذ 1953، وحظر نشاط الإخوان المسلمين الذين أرادوا أن يركبوا الثورة بدلا من صناعها، واعتقال المعارضين في موجات متتابعة، تخللت السنوات 1965،59،54،1953...إلخ، وفى هذه الموجات تساقط ضحايا الأجهزة القمعية للدولة الناصرية التي تتابعت صفات تسلطها منذ إعدام خميس والبقري في سبتمبر 1952 إلى اغتيال شهدي عطية الشافعي في الخامس عشر من يونيو 1960، ولم تنج الجامعات المصرية من بطش الأجهزة القمعية للدولة الناصرية، ولم أعاصر ضربة القمع الأولى التي أصابت الجامعات المصرية في يوم الثلاثاء الموافق 21/9/1954، فقد كنت في العاشرة من عمري، لكن مع وضعي الدولة الناصرية موضع المساءلة بعد زوال الإحساس المرير بكارثة 1967، وتحول مرارة الهزيمة إلى الفرحة بالإنجاز الذى حققه الجيش المصري سنة 1973، أدركت أن جرثومة الهزيمة كانت كامنة منذ البداية، ومرتبطة بآليات الدولة التسلطية التي قمعت حريات الجامعة التي أنتسب إليها في شهر سبتمبر سنة 1954، وعندما قرر مجلس قيادة الثورة «الاستغناء عن خدمات الآتية أسماؤهم من أعضاء هيئة تدريس الجامعات...». وتشمل أسماء المستغنى عن خدماتهم في جامعة القاهرة: عبد المنعم الشرقاوي، توفيق محمد الشابي، أمين محمد بدر (من كلية الحقوق) ولويس عوض ومحمود أمين العالم (من كلية الآداب) وتمضى الأسماء من كليات الزراعة والتجارة والهندسة والعلوم ودار العلوم، ولم تنس القائمة جامعتي عين شمس والإسكندرية التي كان منها الدكتور فوزي منصور وسعد عصفور، وغيرهما من أساتذة كليات الطب والعلوم والهندسة، ليقارب العدد الثلاثين أستاذا جامعيا. وكانت الأسماء التالية هي الموقعة على هذا القرار: بكباشي زكريا محيى الدين، قائد جناح جمال سالم، قائد جناح عبد اللطيف البغدادي، بكباشي أ.ح حسين الشافعي، قائمقام أنور السادات، بكباشي أ.ح جمال عبد الناصر، صاغ أ.ح صلاح سالم، صاغ أ.ح كمال الدين حسين، وقائد جناح حسنى إبراهيم، ويتصدر القرار: لواء أ.ح دون توقيع، ويبدو أن اللواء محمد نجيب رفض التوقيع على هذا القرار، أو أنه كان مستبعدا من حضور مجلس قيادة الثورة إلى أن تم عزله من كل مناصبه في الرابع من نوفمبر سنة 1954، ولقد كان هذا القرار اعتداء صريحا على استقلال الجامعة، وإلغاء لهذا الاستقلال ومعه حرية البحث والتفكير التي هي أهم أصل في أساس الجامعة، والتي لا معنى لوجودها دون استقلالها الكامل عن السلطة السياسية التي ليس من حقها «الاستغناء عن خدمات أساتذة الجامعة» كما لو كان الأساتذة خدما للسلطة السياسية التي كانت تؤسس بهذا القرار بداية الدولة التسلطية الناصرية، تلك الدولة التي سرعان ما رفعت شعار «كل الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب»، ولكن من الذى كان يحدد أعداء الشعب وما معاييره؟ سؤال أضاع الحرية للأسف مع تصاعد وطأة الأجهزة القمعية للدولة الناصرية التي لا يمكن لوطني أن ينكر إنجازاتها العظيمة في مجالات أخرى غير الحرية أو الحريات، لكن تبقى الحرية والحريات كالحياة الديمقراطية السليمة، وبدونهما تتحول الدولة إلى دولة تسلطية، مهما تكن النوايا الطيبة والمشاعر الوطنية لرئيس هذه الدولة، وهذا هو درس التاريخ الذي ينبغي أن يتعلمه الرئيس والشعب على السواء، فلا مستقبل بلا حرية أو حياة ديمقراطية سليمة.
* ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة