استدعيت من الذاكرة تلك القصة وأنا أطالع الأخبار التي زفت لنا تفاصيل اجتماع جرى أخيرًا بين رئيس الجمهورية وأعضاء «مجلس علماء وخبراء مصر»
أتذكر ذلك الصيف البعيد في منتصف التسعينيات، كنا في طريق العودة بسيارات مصر للسياحة الزرقاء المميزة من مصيف مدينة «رأس البر» إلى القاهرة وكان وقت صلاة الجمعة، فقرر السائق إعطاءنا راحة للصلاة في الطريق، وصادف أننا كنا أمام قرية صغيرة تابعة لمحافظة المنوفية، جامع صغير للغاية مليء بالمصلين من أهل القرية ومن الضيوف العائدين من المصيف، افترش كثيرون الطريق أمام المسجد المزدحم، كنت ضمن هؤلاء، دخل الخطيب، رجل مسن ويبدو من هيئته وطريقة كلامه أنه لم يحظ بقدر كاف من التعليم، أو ربما كانت هي طريقته لجذب أهل القرية البسطاء، لا أعلم.
ما يقرب من ساعة ونصف يخطب الرجل في أهل القرية عن الخمر وخطورته، وكيف أنه أول الطريق للزنا والقتل والكفر! قصص كثيرة وأحاديث أكثر عن كون الخمر حرامًا، وحث للناس ألا يقربوه، ثم دعاء معتاد على غير المسلمين أجمعين.
نظرت على جانب الطريق حيث تتوقف السيارة السياحية وقد تبقت بها أسرة مسيحية في انتظار انتهاء المسلمون من الصلاة، وشعرت بالخزي من نفسى وهم يسمعون إمام المسجد يدعو عليهم جهارًا نهارًا بلا ذنب محدد اقترفوه، ثم نظرت إلى الجانب الآخر فوجدت بيوتًا قروية متهالكة وحارات ضيقة غير معبدة، وفى نهاية الطريق «طرنش» لسحب المجاري من البيوت، حيث لا تتمتع البيوت بنظام للصرف الصحي! وتساءلت مع نفسى رغم أنني لم أكن قد أتممت الخامسة عشرة بعد وقتها هل يستحق الأمر أن تحدث أهل قرية على هذا القدر من البؤس لمدة ساعة ونصف عن الخمر؟
من أين سيأتون أصلًا بالخمر وهم لا يجدون ماء نظيفًا ولا صرفًا آدميًّا لفضلاتهم؟
لكن حينما نظرت إلى وجوه المصلين من أهل القرية البسطاء، فقد وجدت عليها الرضا التام والحماس الشديد، وخصوصا في فقرة الدعاء على غير المسلمين قاطبة بلا تمييز أو سبب واضح، ثم لم يفوت الخطيب قطعًا الفرصة ليرسل رسالة أخرى واضحة تقول، إن الأمم قد اجتمعت على الإسلام والمسلمين، ومن هنا فعلى المسلم اليقظة الدائمة من تصرفات أعداء الدين، وقطعًا أيضًا لم يذكر لماذا؟
أو كيف؟
فقط كلام مرسل لإبقاء الناس في أوضاع دفاعية بائسة، ثم انتهى الأمر!
***
استدعيت من الذاكرة تلك القصة وأنا أطالع الأخبار التي زفت لنا بعض من تفاصيل اجتماع جرى أخيرًا بين رئيس الجمهورية وأعضاء «مجلس علماء وخبراء مصر» حيث انتهى الاجتماع باقتراحات (لم نفهم من أي جانب) بإنشاء «منظومة للأخلاق» و«لجنة لتنمية الضمير»، حقًّا؟! بكل الظروف التي نمر بها على مستويات اقتصادية وسياسية واجتماعية بل وحتى إنسانية، فإن اجتماعات بهذا المستوى بين رأس الدولة وبعض علمائها وخبرائها تناقش كيفية دعم الأخلاق وتنمية الضمير؟ ماذا عن الصحة والتعليم والبيئة والبنية التحتية؟
ماذا عن انتهاكات حقوق البشر بشكل شبه يومي، وعلى يد أطراف حكومية (دولاتية) متعددة؟
هل وصلنا إلى هذا المستوى العالي من الرفاهية لدرجة أننا قررنا «تنمية الضمير»؟
وكيف سننميه إذن؟
بأي آليات وبأي وسائل؟
وما علاقة الدولة أصلًا بالأخلاق والضمير؟
استدعيت تلك الخطبة العصماء وأنا أطالع الخبر المؤسف المتكرر، والذى راحت ضحيته فتاة غيرت دينها من الإسلام إلى المسيحية وتزوجت جارها المسيحي في إحدى قرى محافظة الفيوم، بعد الهروب من القرية قطعًا لتنجب طفلًا في الإسكندرية، ثم تتعرض للقتل على يد أفراد أسرتها في بربرية وحشية، وبسكوت من الدولة والمجتمع على السواء، ثم تتعرض أسرة الزوج المسيحي بالكامل للتهجير القسري من القرية، وهذه المرة وسط مباركة من نفس الدولة ومن نفس المجتمع، لدرجة أن مقال الاستاذ بلال فضل عن الحادثة في جريدة العربي الجديد (جريمة عنصرية في الغرب المنافق) والذى قام بنشره إلكترونيًّا على موقع التواصل الاجتماعي «الفيس بوك» قد تعرض للحذف بعد أن تطوع مئات المتدينين المؤمنين الورعين بإبلاغ إدارة الموقع عن أن محتوى المقال «غير لائق» لمجرد أنه انتقد الحادثة البشعة، ثم تجد من يحدثنا عن الأخلاق والضمير وتنميتهم بواسطة الدولة!!
تأملت بعد أن قمت بإثارة نفس الموضوع على صفحتي بردود فعل بعض الأصدقاء الإسلاميين، وبعض هؤلاء المؤيدين للدولة والنظام وهم في حالة إجماع نادر على أن الفتاة قد حصلت على ما تستحق، وأن هذا هو الشرع، أو أن ظروف البلد لا تحتمل إثارة القلائل في هذا التوقيت! إجماع نادر ومريض في الوقت نفسه!
استدعيت خطبة شيخنا في القرية المعدمة عن خطورة الخمر وخطورة المؤامرات على الإسلام، وأنا أتابع ذلك الفنان، وهذا الطبيب النفسي ذائع الصيت، وهذا الأكاديمي البائس، وهم يعلنون لجماهيرهم ومتابعيهم وقرائهم أن أزمة مصر هي أزمة ضمير وأخلاق! هكذا ببساطة، وليست مثلًا أزمة إفقار متعمد، ولا أزمة فساد، ولا أزمة تآكل وتهافت أداء الجهاز الإداري للدولة، ولا أزمة انتهاكات متكررة لحقوق الشعب، ولا أزمة صحة وتعليم، لا، هي أزمة أخلاق وضمير، وعلى الشعب أن ينام كل يوم شاعرًا بالذنب؛ لأنه ليس ورعًا وتقيًا بما فيه الكفاية!
تذكرت يوم الجمعة هذا وأنا أرى في مصر كيف تحول «الحجاب» في بعض الأحوال من رمز ديني هوياتي إلى وسيلة للقهر الاجتماعي والثقافي؟
كيف يرد المجتمع على الفتاة أو السيدة التي تقرر بمحض إرادتها أن تخلع الحجاب بحملة تشويه وترغيب وترهيب مخيفة وكأنها ارتكبت خطيئة بحق الكون؟
لا مانع عند المجتمع أن تتعرض الفتيات للتحرش أو للظلم الاجتماعي والثقافي الذى يصل إلى حد حرمانها من الميراث أو إيذائها جسديًّا أو حتى قتلها بدعوى الشرف أو الشرع، كما حدث في حالة فتاة الفيوم!
المهم أن هناك قطعة قماش تغطى شعرها، ما هذا البؤس والنفاق؟
***
تذكرت كل ذلك وأنا أتساءل كيف لمصر أن تتقدم أو حتى تستقر وبها كل هذا الظلم والبؤس والنفاق وانتهاك حقوق البشر؟
كيف يجتمع الأضداد في مصر على استخدام الدين والأخلاق والضمير كأدوات سلطوية لكسر إرادة البشر، وتحويلهم إلى مجاميع منتهكة وصامتة بل وراضية في الوقت ذاته بهذه الأحوال البائسة!
لا شأن للسلطة بالدين والأخلاق والضمير، هذه ليست منتجات مادية مطلوب من الدولة إمداد الشعب بها، هذه معطيات ثقافية واجتماعية تغيرت وتتغير وستتغير عبر التاريخ نتيجة لتفاعل مع ظروف مادية ومعنوية متعددة، كل شخص حر إذا لم يخالف القانون أو يعتدى على حقوق الآخرين، كل شخص مستقل عليه تحديد مفاهيمه الخاصة عن الدين والأخلاق والضمير بإرادته الحرة، وليس بإرادة السلطويات البائسة التي لا تخجل من فشلها المتتالي على كل الأصعدة، ثم تعلن تنمية الضمير والأخلاق وحماية الدين! على الدولة حماية المواطن والالتزام بالدستور والقانون في علاقتها معه، والبعد عن دينه وأخلاقه وضميره ببساطة! كما أنه لا شأن لهذه النخب البائسة المطنطنة بحديث الأخلاق والضمير وبحياة الناس الخاصة، وعليهم بدلًا من ذلك دفع السلطة لإصلاح تلك الأوضاع المتدهورة على مؤشرات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وإن لم يقدروا فليحملوا السلطة مسئوليتها إذن أو ليسكتوا!
كثير من الإسلاميين في حالة تناقض ذاتي رهيب بين تصوراتهم عن قيم مثل العدل والأخلاق وحقوق الإنسان وبين تصرفاتهم وانحيازاتهم الفعلية، فالعدل هو عدلهم هم، والأخلاق هي أخلاقهم هم، وحقوق الإنسان هي حقوقهم هم، وهذا في حد ذاته مأزق أخلاقي وحضاري عميق، لا أعرف إن كانوا بالفعل على علم بخطورته!
أما عن مدعى الحداثة والتمدن والليبرالية، فحدث ولا حرج، فباستثناءات محدودة للغاية فهم أيضًا يعانون نفس المأزق، فالسلطة التي يعولون عليها ويراهنون عليها للقيام بعملية تحديثية واسعة ــ وفى سبيل ذلك تخلوا عن كثير من قيمهم ورشدهم ــ تقودهم لحالة رجعية غير مسبوقة في عهد الجمهورية على الأقل، فهل يدركون هم أيضًا هذا المأزق أم يواصلون حالة الغيبوبة التي دخلوا فيها منذ عامين؟
دعوا الأخلاق والضمير والدين لمساحات الناس الخاصة، ولتحيا مصر بالدستور والقانون والحقوق والحريات، دولة لكل المصريين بلا تمييز.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة