تراجع مصادر الاستثمارات الأجنبية لم يكن أمرًا جيدا، لكن ما زاد الأمر سوءا هو تزامن ذلك مع العديد من التطورات السلبية.
شهد الاقتصاد المصري عامين ونصف العام من الركود، بداية من ٢٠١١ بسبب الاضطرابات السياسية، والتي دفعت الكثير من المستثمرين لتقليص استثماراتهم وعدم التوسع فيها حتى استقرار الأوضاع، وبعد ٣٠ يونيو، بدا أن الاقتصاد سيتعافى سريعا معتمدا على الدعم الخارجي، حيث تلقى الاقتصاد ما يزيد على ٢٠ مليار دولار من المساعدات والمنح الخليجية في المرحلة الانتقالية التي تلت ٣٠ يونيو.
مع انتهاء المرحلة الانتقالية؛ كان من المفترض أن يتحول الدعم الخارجي من منح خليجية إلى استثمارات خليجية وأجنبية على حد سواء، بناء على خطة الحكومة، والتي كانت ترمى لجذب تدفقات خارجية لدفع معدلات النمو وخلق فرص عمل، بدت هذه الخطة حينها مثالية إلى حد كبير؛ فخزائن الخليج كانت مفتوحة على مصراعيها والصورة السياسية في مصر كانت في طريقها للاكتمال، مما كان يوحى بأن تدفق الاستثمارات لن يكون مستحيلاً، وإن اختلفت التوقعات حول حجم تلك الاستثمارات وتوقيتها.
ولجذب تلك الاستثمارات؛ تم عقد مؤتمر شرم الشيخ مطلع العام والذى خرج في صورة رائعة، وكانت له مكاسب سياسية، لكن المكاسب الاقتصادية للمؤتمر تم تضخيمها إعلاميا بالحديث عن عشرات المليارات من الدولارات كاستثمارات، وتلك الأرقام لم تكن واقعية، وعلى الرغم من التضخيم؛ فإنه كانت هناك فرصة حقيقة لجذب استثمارات تستطيع دفع الاقتصاد، لكن العديد من الأحداث غيرت المشهد في الأشهر الأخيرة، فثروات الخليج المتراكمة بدأت في التآكل مع الانخفاض الحاد في أسعار البترول، والذى يبدو أنه سيستمر لفترة، كما أن حرب اليمن أثقلت ميزانيات دول الخليج، خاصة السعودية، مما أدى إلى تراجع الدعم الخليجي.
ومع تراجع الدعم الخليجي؛ برز الدور المحتمل للشركات الأوروبية، والتي كانت تمثل قرابة ٨٠٪ من الاستثمارات الأجنبية قبل ٢٠١١، لكن الواقع أن أوروبا لا تزال تعانى من أزمة اقتصادية منذ الأزمة المالية العالمية في ٢٠٠٨، بل إن الوضع قد تفاقم مع تصاعد أزمة الديون اليونانية، ومع تقلص الدور الغربي، زادت أهمية روسيا والصين، لكن روسيا أصابها فيروس انخفاض أسعار البترول مما أقعدها عن دعم الاقتصاد المصري، أما الصين، والتي كانت تخطط للعب دور اقتصادي عالمي فقد تعرضت لأزمة اقتصادية أدت إلى تراجع معدلات نمو الاقتصاد والصادرات.
تراجع مصادر الاستثمارات الأجنبية لم يكن أمرا جيدا، لكن ما زاد الأمر سوءا هو تزامن ذلك مع العديد من التطورات السلبية، حيث أدى تزامن الركود في أوروبا والصين في آن واحد؛ إلى تراجع معدلات التجارة العالمية، مما كان له أثر سلبي على تراجع إيرادات قناة السويس، على الرغم من مشروع قناة السويس الجديدة، والذى كان من المفترض أن يؤدى لزيادة الإيرادات، وإن كان حجم الزيادة محل جدل منذ إطلاق المشروع، وبينما يحدث كل ذلك، اتجهت الأنظار لقطاع السياحة كمصدر للعملة الصعبة وفرص العمل، خاصة بعد أن أظهر القطاع تحسنا كبيرا خلال العام الماضي، لكن مرة أخرى تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، ويأتي سقوط الطائرة الروسية كضربة قاصمة لهذا القطاع.
مصر ليست حديثة عهد بالإرهاب؛ حيث شهدت أحداثا عديدة خلال العقود الأخيرة، قد يكون من أبرزها مجزرة الأقصر في أواخر التسعينيات، لكن هذه المرة قد تكون مختلفة بسبب الضجة الإعلامية، التي صاحبت الحادث عالميا، والتأكيد دوليا على تفجير الطائرة، مما دفع روسيا، مصدر السياحة الأول لمصر إلى إجلاء السياح الروس، وحذت إنجلترا حذوها، ردود الأفعال امتدت لتشمل توقف الطيران الروسي لمصر والعكس، كما اتخذت العديد من شركات الطيران إجراءات جديدة في التعامل مع رحلات السفر من مصر، إضافة إلى ذلك، وضعت السلطات الأمريكية شروطا صعبة لشحن المنتجات المصرية جوا، مما يؤثر على الصادرات المصرية وقدرتها على النمو.
***
تراجع الاستثمارات الأجنبية وإيرادات القناة والسياحة، وكذلك القيود على الصادرات؛ تدخل الاقتصاد المصري في حالة من العزلة النسبية عن باقي العالم، العزلة الاقتصادية ليست خبرًا جيدا خاصة في ظل حاجة الاقتصاد لتدفقات خارجية، لكن من ناحية أخرى تلك العزلة ليست نهاية العالم، لو تم إدراك الوضع والتعامل معه بحكمة، الجيد في هذا الصدد أن بعض التوجهات الاقتصادية أخيرا توحى ببوادر لإدراك الوضع، ويبرز في ذلك السياق التوجه العام للدفاع عن الجنيه برفع سعر الفائدة على ودائع الجنيه، لتشجيع المدخرين على التنازل عن الدولار، وكذلك زيادة سعر الجنيه أمام الدولار، بعد أن أصبح جليا أن تخفيض الجنيه لن يؤدى لجذب الاستثمارات الأجنبية المتراجعة لأسباب سياسية وأمنية في الأساس.
على الرغم من ذلك؛ قد يلجأ البنك المركزي لتخفيض الجنيه في المستقبل، لكن حينما يتضح أن ذلك سيؤدى فعلاً لجذب استثمارات أجنبية، ويمكن أيضا النظر لتركيز الحكومة على قضية محاربة التضخم من خلال مبادرات وزارة التموين والمؤسسة العسكرية على أنه إدراك أن مشكلة التضخم أصبحت لا تطاق، وأن الناس كان يمكن أن تتحمل التضخم لو وجدوا تحسنا ملموسا من فرص عمل وزيادة رواتب، لكن بما أن ذلك غير متاح على المدى القصير وربما المتوسط؛ فمن الضروري السيطرة على التضخم الذى يفقر الناس تدريجيا، كما يوضح تركيز الحكومة على الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي إدراك التغيرات الاقتصادية المحيطة، وتغير أوضاع الداعمين للاقتصاد المصري في العام الأخير.
إدراك حقيقة الوضع أمر مهم، ومن الضروري أيضا تبنى توجهات أخرى يأتي على رأسها إعادة النظر في المشروعات القومية العملاقة باهظة التكلفة، والممولة بقروض مكلفة، لكن يتطلب العائد عليها فترات طويلة، من ناحية أخرى؛ من الضروري تشجيع القطاع الخاص في وقت يواجه فيه العديد من التحديات مثل عدم توافر التمويل وارتفاع تكلفته، ومن المفيد أيضا أن يعيد البنك المركزي النظر في قيود إيداع الدولار والتي أدت إلى تراجع الواردات، لكن تراجعت معها معدلات الإنتاج المحلى والتصدير مما عمق الأزمة الاقتصادية، وتتجلى ملامح العزلة الاقتصادية تدريجيا، وقد لا يكون هناك مناص منها على المدى القصير، لكن سرعة الحكومة في إدراك الوضع والتعامل معه قد يخفف من حدة الأزمة ويساعد على التعايش معها مرحليا.
......................
ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإخبارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة