قبل أسبوع من اليوم وجدت فى صندوق بريدى رسالة من المجلس الأعلى للثقافة يدعونى فيها لحضور افتتاح الدورة الأولى
قبل أسبوع من اليوم وجدت فى صندوق بريدى رسالة من المجلس الأعلى للثقافة يدعونى فيها لحضور افتتاح الدورة الأولى لما سمى فى الدعوة «الملتقى الدولي.. تجديد الخطاب الثقافي»، فلم أفهم جيدا ما جاء فى هذه الدعوة الموجهة للجمهور.
وفى اليوم التالى حضرت اجتماعا لمجلس إدارة دار الكتب، فلقيت ضمن من لقيتهم الدكتورة أمل الصبان، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، التى وزعت على الحاضرين ـ وأنا منهم ـ نسخا من برنامج العمل فى الملتقي، الذى دعيت لحضور افتتاحه يوم الأحد الماضي، فشكرت السيدة الفاضلة وسألتها عن هذا الملتقى الذى لم أسمع عنه من قبل، واستغربت الأسلوب الذى اتبعه المجلس فى دعوتى لحضور افتتاحه.
ملتقى دولى لتجديد الخطاب الثقافى. أى خطاب ثقافي؟ الخطاب المصري، لأن الملتقى يعقد بدعوة من المجلس الأعلى للثقافة فى مصر؟ أم الخطاب الدولى لأن الملتقى دولي، والمشاركون فيه ينتمون لدول مختلفة؟ فإذا كان المقصود هو الخطاب الثقافى المصري، فأى خطاب مصري؟ الخطاب الذى تتبناه وزارة الثقافة؟ أم خطاب الإعلام؟ خطاب الأزهر؟ أم خطاب المثقفين؟ خطاب الحكومة أم خطاب المعارضة؟
ونحن نعرف أن كلمة «الخطاب» أصبح لها فى الفكر المعاصر معنى يختلف إلى حد كبير عن معناها القديم، فالخطاب القديم مجرد قول أو تقرير، أما الخطاب الذى أصبح مصطلحا فى الفكر المعاصر، فهو القول الذى يقصد به صاحبه إلى التأثير والتغيير، وبهذا القصد يستخدم اللغة التى تتحول من قول إلى فعل.
هكذا لم يعد الخطاب محصورا فى الكلمات والتراكيب المستخدمة فى النص المكتوب أو الملفوظ، بما تقدمه من معان حرفية، ودلالات مباشرة، وإنما يتجاوزها إلى الإشارات والدلالات البعيدة التى تفهم من تركيب النص وما فيه من علامات وإيحاءات اجتماعية وسياسية وثقافية يصبح بها النص الواحد مادة لقراءات متعددة، ويمكننا بالتالى أن نتحدث عن خطاب قديم وخطاب جديد، كما فعلنا ونحن نطالب بتجديد الخطاب الدينى اعتمادا على ما لدينا من نصوص تتسع للتفسير والتأويل.
وكما يحق لنا أن نجدد الخطاب الديني، يحق لنا أن نجدد الخطاب الثقافي، بل إن الخطاب الثقافى هو الأحق بأن نبدأ بتجديده، خاصة حين تتصدى الدولة للتجديد، لأن الثقافة الوطنية ميدان من الميادين التى ترعاها الدولة الوطنية، ولأن الدولة تملك وسائل التجديد المتمثلة فى الهيئات والمؤسسات التعليمية والثقافية والدينية والإعلامية، ثم إن الخطاب الثقافى خطاب مفتوح يستجيب للتجديد والتحديث من مختلف الأطراف الفكرية، فهو المدخل الطبيعى لتجديد الخطاب الديني، وأى خطاب آخر.
ونحن نعرف أن ثقافتنا الحديثة مرت بأطوار عدة منذ بدأت النهضة المصرية فى أوائل القرن التاسع عشر إلى اليوم، ونعرف أن الصراع احتدم طوال القرنين السابقين بين العقل والنقل، وبين التجديد والتقليد، وبين الدولة الوطنية والدولة الدينية، وبين الحريات الديمقراطية والسلطة المستبدة.
ونحن نعرف أن الثقافة المصرية ازدهرت خلال النصف الأول من القرن العشرين حين كانت نشاطا خاصا تنهض به الجماعات والأفراد، ولا تشارك فيه الدولة إلا فى الميادين التى تحتاج لطاقات خاصة، وميزانيات ضخمة، لكن هذا الوضع تغير حين أنشئت وزارة الثقافة فى أواخر الخمسينيات فحققت الثقافة المصرية من إنشائها قليلا من الربح، ومنيت بكثير من الخسارة.
ما الذى ربحناه، وما الذى خسرناه؟ وكيف نقيم تجربتنا ونصححها؟ هذا هو السؤال المطروح علينا اليوم، وحتى على غيرنا من البلاد التى مرت بتجارب شبيهة بتجربتنا، لعبت فيها الدولة الدور الأول فى الثقافة والاقتصاد، ثم فرضت عليها النتائج المأساوية أن تتراجع كما حدث فى دول المعسكر الشرقى الذى انهار منذ ربع قرن، وكما حدث أيضا فى بعض الدول الغربية التى زاوجت فى الثقافة بين نشاطها والنشاط الخاص.
أريد أن أقول إن الموضوع خطير، فقد تراجعت ثقافتنا الحديثة كما وكيفا، وأصبحت أعمالا مكتبية، ومجاملات صحفية، وبدلا من أن تكون هى مدخلنا لتجديد خطاباتنا السياسية والدينية والاجتماعية، رأينا أن الخطاب الدينى الرجعى المتطرف هو الذى انفرد بالساحة وصار مدخلا ومرجعا لكل شىء، ومن هنا أصبح إحياء النشاط الثقافي، وإعادة الاعتبار للثقافة، واحترام استقلال المثقف، وضمان حرية التفكير والتعبير ضرورة حياة وطوق نجاة لمصر، فهل هذا هو ما أراده المجلس الأعلى للثقافة حين فكر فى تجديد الخطاب الثقافى، وحين دعا لملتقى دولى يبحث هذا الموضوع؟
يستطيع المجلس الأعلى للثقافة أن يجيب بنعم، وأن يقول إنه يسعى بالفعل لإنقاذ الثقافة المصرية، وتجديد الخطاب الثقافى، وفى هذه الحالة نسأله عن الكيفية التى اتبعها فى الإعداد للملتقي، كيف حدث هذا؟ وما هى القواعد والضوابط والدراسات والإحصاءات التى اعتمد عليها فى تحديد سلبيات الخطاب القديم، ومواصفات الخطاب الجديد، وفى اختيار المشاركين على النحو الذى يسمح بدراسة الموضوع بجميع أطرافه وعناصره، والوصول فى النهاية إلى تصورات يمكن أن تتحول إلى سياسات وإنجازات؟
وإذا كان تجديد الخطاب الثقافى يتطلب مراجعة التجربة الطويلة التى مرت بها وزارة الثقافة بمراحلها المختلفة، منذ أنشئت إلى اليوم، ويفتح المجال لنقد السياسات التى تتبعها حتى الآن، ويتبعها المجلس الأعلى بالطبع، فهل يتسع صدر الوزارة وصدر المجلس لهذا النقد؟ وهل يدل الأسلوب الذى عرفت به أنا وغيرى أن المجلس سيناقش تجديد الخطاب الثقافى فى ملتقى دولى قبل أربعة أيام من انعقاده ـ هل يدل هذا الأسلوب على أن المجلس حريص بالفعل على تجديد الخطاب الثقافي، وعلى أن يشارك المثقفون المصريون بجميع اتجاهاتهم فى مناقشة هذا الموضوع الخطير الذى سبق أن تناولته، كما قد يذكر القراء فى سلسلة من المقالات التى جمعت فى كتاب صدر فى العام الماضى عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى «مكتبة الأسرة» بعنوان «من ثقافة السلطة إلى سلطة الثقافة»؟ وقد تردد صدى هذا العنوان فى برنامج الملتقى الذى قرأته فوجدته يعج بعشرات من المشاركين المصريين وغير المصريين، وإذن فالمجلس يعد لعقد هذا المتلقى منذ فترة، وهذا ما يجب أن نذكره له، لكن لماذا لم يصلنا أى خبر عنه إلا قبل انعقاده بثلاثة أيام؟
تجديد الخطاب الثقافى ليس عملا مكتبيا يؤديه بعض الموظفين، وإنما هو قضية مطروحة على كل المثقفين، فإذا كان المجلس قد تصدى لها فمن حقنا أن نطالبه بتفسير ما لم نفهمه فى نشاطه، وبأن يلتزم فى ممارسته لهذا النشاط القواعد والضوابط والحدود التى يدل الالتزام بها على الجدية، ويضمن للعمل النجاح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة