منذ خروجه من إيران إلى تركياعام 1965 ثم استقراره في النجف كان الخميني على تواصل دائم مع المعارضة الإيرانية في الخارج
في بداية السبعينات من القرن المنصرم، عندما كنت طالبا في جامعة «سيتي»، بمدينة نيويورك، حيث كنت ناشطا في حركة اتحاد الطلبة الإيرانيين ضد الشاه، أبلغت بوصول مبعوثين من الخميني الذي كان يقطن مدينة النجف، في العراق، آنذاك، حاملين رسالة منه مضمونها أن علينا أن نّتحد بسرعة من أجل إسقاط نظام الشاه. منذ خروجه من إيران إلى تركيا، في عام 1965 ،ثم استقراره في النجف في عهد عبد السلام عارف، كان الخميني على تواصل دائم مع المعارضة الإيرانية في الخارج.
في ذلك الوقت، كنت أنا المسؤول عن العلاقات الدولية في اتحاد الطلبة في مدينة نيويورك. وأحد المبعوثين المعتمدين لدى الخميني مباشرة كان المعارض الشهير لنظام الشاه صادق قطب زادة، الذي تم إعدامه بعد 4 سنوات من انتصار ثورة الخميني في إيران، بعدما تقّلد مناصب متعددة في النظام الجديد، ومن بينها وزارة الخارجية.
وإعدامه جاء في ظروف ملتبسة، وبتهم مفبركة، وبأوامر مباشرة من الخميني نفسه، بتهمة تورطه في إجراءات تنتهي بالانقلاب العسكري للإطاحة بالخميني. كان قطب زادة أحد القيادات في الحركة الإسلامية «الشيعية» للطلاب الإيرانيين في الولايات المتحدة. ولكن بعد فترة، ترك الولايات المتحدة، وسكن في باريس، وأصبح الرجل الأول لاتصالات الخميني وعلاقاته الخارجية في جميع أنحاء أوروبا.
أما المبعوث الثاني، فكان إبراهيم يزدي الذي درس الصيدلة في الولايات المتحدة، وكان رئيس الحركة الإسلامية للطلبة في ولاية تكساس، وأصبح وزيرا للخارجية في حكومة مهدي بازركان، وهي أول حكومة بعد الثورة في إيران. وبالعودة لرسالة الخميني الموجهة لنا، فإنها كانت تتضمن وعودا حول ما سوف يفعله بعد إسقاط الشاه. من ضمن تلك الوعود أنه (الخميني) سوف يعود إلى الحوزة الدينية في مدينة قم، ويلتزم بعدم التدخل في الشؤون السياسية، ويطبق مبدأ «فصل الدين عن الدولة»، وفقا لما رّوج له سابقا آية الله بروجردي، المرجع الشيعي المعروف، وعلى طريقة ما كتبه آية الله نائيني إبان الثورة الدستورية في بداية القرن العشرين في إيران، في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». في ذلك الوقت، لم يكن أحد يعلم عن فكرة الخميني حول «ولاية الفقيه»، ولم تطرح أساسا في أواسط الطلبة والمعارضة الإيرانية.
مّرت عدة سنوات، وعندما كنت سجينا سياسيا في السبعينات من القرن المنصرم، في سجن «إيفين» بطهران، ما یقارب العامین، كان السجن ممتلًئا بجميع الأطياف السياسية والفكرية من مختلف الأحزاب والتيارات الآيديولوجية المناهضة لنظام الشاه، بدءا من الحركات المسلحة إلى الشيوعيين والقوميين، مرورا بالانفصاليين وقيادات من النزعة الدينية. كنا نقضي فترة سجننا في صالة جماعية، ومندمجين ببعضنا بعضا، وكانت تدور بيننا حوارات على الدوام عن مستقبل إيران بعد إسقاط الشاه، وكان بین المسجونین أشخاص مثل طالقاني ورفسنجاني وخامنئي وآخرين أصبح بعضهم فيما بعد قيادات معروفة في نظام الخميني بعد الثورة. في كل تلك الحوارات المتداولة، لم تطرح فكرة «الولي الفقيه»، ولا حتى لمرة واحدة.
لا أعلم إن كانُتُطرق لهذا الأمر في سرية بينهم، وبعيدا عن أعين الجميع..! في السجن، كنت أقوم بتدريس اللغة الإنجليزية، وكان لدي طلاب من جميع الأطياف السياسية، وفي مقدمتهم الإسلاميون الذين كانوا يشاركون في جلسات التعليم باستمرار، ولم يتغيبوا إلا في أوقات الوضوء والصلاة، وكانوا يبتعدون عنا قاصدين في هذا الوقت بالذات، وذلك بحسب رؤيتهم المذهبية التي تقول إن «الاندماج مع الليبراليين في أوقات الصلاة والوضوء يبطل عباداتهم». هذه كانت النقطة الوحيدة التي تفصلنا عنهم في تلك الحقبة، ولكن بعد تطبيق نظام الولي الفقيه في إيران، أصبح كل شيء متعلق بالعلمانية حراما، إلا إذا استغفرنا عن أفعالنا وأفكارنا، وأعلنا التوبة، وتبعنا الخميني فعلا وقولا.
فعند ذاك، كان يمكن لنا أن نعيش بعيدا عن السجون والتعذيب كمواطنين مهمشين. هناك تاريخ من الكفاح السياسي في إيران من أجل الحرية والعدالة ومناهضة الديكتاتورية، يصل إلى 100 عام، لم تشارك فيه النزعة الخمينية إلا بشكل جزئي، ولم تكن نظرية الولي الفقيه مطروحة فيه أبدا.
ولكن الخميني برع في اختطاف ثمار الثورة، وفرض نظام الولي الفقيه بالقوة، ومزجه بالحروب وبالآيديولوجيا بدلا من تنفيذ أهداف الثورة الإيرانية. وهكذا، بدأ الخميني بفرض الإسلام السياسي الشيعي الذي ما زال، بعد 37 عاما من مجيئه، يصّر على وهمية الثورة العقائدية التوسعية، بدلا من خوضه بتفاصيل موضوعية لما حصل للشعب الإيراني بعد كل هذه السنوات، وما سيحصل له في المستقبل. وبدأ الإسلام السياسي كدولة في إيران بعدما نكث الخميني بوعوده، وتراجع عن وعد بقائه في مدينة قم، وانفصاله عن السياسة منذ الأيام الأولى من انتصار الثورة، بل إنه ذهب إلى طهران، وتربع على عرش الولي الفقيه حتى مات في عام 1989. ويعتبر النموذج الخميني للإسلام السياسي فريدا من نوعه في تاريخ الإسلام السياسي، فهو لا يشبه أبدا نظام الخلفاء الراشدين، ولا الأمويين، ولا العباسيين، كما أنه يقف بعيدا عن إسلام العثمانيين.
وعلى الرغم من كل الشعارات الطائفية التي يطلقها نظام الولي الفقيه، فإن هذا النظام، ومن يومه الأول، كان مجردا تماما من شعاراته، بل إنه تفنن في الإعدامات السياسية والاغتصاب في السجون في داخل إيران، ومن ثم نشر الإرهاب في الخارج، كالتورط في قتل الشعب السوري واليمني والعراقي، واستغلال جماعات وميليشيات، كحزب الله اللبناني، لتحقيق أهدافه التوسعية. إن إسلام الخميني السياسي يعتبر امتزاجا بين الصفوية في عصورها القديمة، والأنظمة الشمولية في العصر الحديث، فقد ورث التوسع الصفوي في الاعتداء على شعوب المنطقة، والقمع الستاليني والدعاية النازية في مواجهة الشعوب الإيرانية وشعوب المنطقة.
وهناك نماذج أخرى من الإسلام السياسي، ترفعها تيارات متعددة في العالم الإسلامي، ما زالت تحلم بالوصول إلى السلطة، ولكن أدبياتها لم تصل إلى الدرجة الخطيرة التي وصل إليها نظام الخميني في الحكم. على سبيل المثال، فقد بقيت نظريات حسن البنا السياسية في الحكم بعيدة عن التطبيق، ما عدا محاولات في الفترة القصيرة التي حكم بها الإخوان المسلمون في بعض الدول العربية في السنوات الأخيرة، ولم تصمد طويلا، لأنها لم تلق قبولا لدى المجتمع العربي.
كما أن أفكار سيد قطب حول الدولة الإسلامية أيًضا بقيت كأفكار الخميني في أيامه الأولى، ولم تشّق طريقها إلى الحكم، وحتى التيارات المتشددة المطروحة حاليا، مثل تنظيم داعش، لم تتبَن أفكاره المتشددة، بل إن «داعش» يفضل نمط الخميني، لأنه أقرب إلى نمط السلطة، ويحتذي تجربته، وإن كان يختلف معه طائفيا، ولكن الغاية تبرر الوسيلة، وإن أمثل وسيلة هي الطريقة التي وصل بها الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، وهي الطريقة الخمينية.
*- نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة