مثقفون عرب يتحدثون لـ"العين" عن مسؤوليات وزارات الثقافة وتحدياتها
في ظل تحديات ضخمة يواجهها العرب بدا أن أدوارا جوهرية لا بد من أن تضطلع بها وزارات الثقافة والمؤسسات الرسمية التابعة لها
في الوقت الذي تثار فيه إشكالية الأدوار المنوطة بوزارات الثقافة والمؤسسات الرسمية في العالم العربي، من حيث وجودها من عدمه، أو المطالبات بإعادة هيكلتها مع تقليص صلاحياتها والاعتماد على النشاط المستقل بصفة أكبر، كان البرازيليون على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي يضغطون على حكومتهم لإعادة وزارة الثقافة ضمن تشكيلة مجلس الوزراء، وهو ما رضخت له الحكومة البرازيلية، الأسبوع الماضي. في عالمنا العربي، ومع صعوبة اللحظة الراهنة والتحديات الضخمة التي يواجهها العرب، بدا أن أدوارا رئيسية وجوهرية لا بد من أن تضطلع بها وزارات الثقافة العربية والمؤسسات الرسمية التابعة لها خاصة في ظل التسارع المتزايد في نقل المعلومات وتداولها وضرورة توفير حق المعرفة للمواطن العربي.
لا يمكن في هذا السياق، بإجماع كثير من الآراء، إغفال التجربة الثقافية الإماراتية التي شهدت طفرات وقفزات هائلة وغير مسبوقة خلال السنوات الأخيرة، العمل الثقافي العام يتصدر أولويات مسؤولي الدولة ويترجم إلى أنشطة وفعاليات غزيرة ومتنوعة ومثمرة، وكلها صار رائدا وجديرا بالاحتذاء، وبدا أن العمل الثقافي الرسمي في الإمارات يسبق غيره بخطوات شاسعة. مثالا، وبمبادرة من رئيس الدولة خصص العام 2016 "عاما للقراءة" وصدر تشريع "قانون" للقراءة حمل خطوات وإجراءات هائلة في التشجيع على القراءة والحث عليها وجعلها هدفا استراتيجيا من أهداف الدولة.
في المقابل، تبدو تجارب أخرى، في أنحاء متفرقة من العالم العربي تعاني من بعض المعوقات مما يستدعي إعادة نظر ومراجعة السياسات الثقافية عامة، وأداءات الوزارات المعنية (الثقافة) بإعادة رسم الأهداف وتحديد الغايات. يقول الكاتب السوري ماهر منصور، إن الحديث عن دور لوزارة الثقافة بالدعم والرعاية والتمويل، هو حديث عن أبجدية عملها التي لا معنى لوجودها من دونه، وبالتالي ربما علينا أن نتجاوز السؤال عن الدعم والرعاية والتمويل، لسؤال عن أي دعم وتمويل ورعاية تقوم بها، وهو سؤال سرعان ما نحيله، إلى القوانين الناظمة، المكتوبة وغير المكتوبة، لأي عمل حكومي.
يوضح منصور أن هذا العمل هو الذي يشترط، حكما، أن يكون المستفيد هو تحت كنف الدولة/ الحكومة وتوجهاتها وآرائها، وبالتالي ستكون تلك الرعاية وهذا الدعم في إطار تلك سقف محدد؛ سقف الرقابة، سقف المجتمع، سقف الوزير.. وصولا إلى سقف أصغر مدير في وزارة الثقافة. وربما أصغر من ذلك بكثير. ومع هؤلاء سينخفض السقف تباعا، حتى نصل إلى ما نسميه تحالف ضعفاء من مثقفي السلطة وربما مثقفي وزير الثقافة، يتصدرون المشهد الثقافي كمنتفعين لا مثقفين. في وقت غابت كثير من الأسماء المهمة عن هذا المشهد.
لا يعني هذا في نظر منصور، أن لا شيء جديرا بالتوقف في هذا المشهد القاتم، يقول إن الحديث على هذا النحو لا يعني عدم وجود استحقاقات حقيقة أنجزتها وزارة الثقافة في سورية، سواء على صعيد المسرح، والسينما، والفنون التشكيلية، والكتاب، بل كلها جاءت في مشروعات ومؤسسات ضخمة ومهمة، إلا أن تلك المشاريع افتقدت بمجملها لخط الإنجاز المتصاعد، فكانت تتقد إنجازاتها أو تخبو تبعا لشخصية وزير الثقافة والقائمين عليها. ومع كل تغير لوزير أو حتى مدير مؤسسة ثقافية كنا نشهد صعود أسماء وتغييب أسماء أخرى، وكان ظهور هؤلاء المثقفين والمبدعين أو تواريهم، رسميا، مواسم ومواسم.
في مسار مختلف، تبدو التجربة الثقافية الفلسطينية، خاصة في الفترة الأخيرة، مختلفة ومبشرة، فها هو الكاتب والروائي الفلسطيني ربعي المدهون (الحائز مؤخرا على الجائزة العالمية للرواية العربية، بوكر 2016) يؤكد من واقع متابعته واتصاله بالمشهد الفلسطيني أن هناك نشاطا ثقافيا ملحوظا شهدته الساحة الفلسطينية مؤخرا، خاصة مع الخطوة الجريئة التي اعتمدها المثقفون الفلسطينيون، بنقل مركز الأنشطة الثقافية والفنية من مدينة رام الله، التي تلعب دور العاصمة المؤقتة، إلى المدن والبلدات والقرى الفلسطينية الأخرى.
يوضح المدهون أن إقامة شراكة بين وزارة الثقافة الفلسطينية والمجالس البلدية والقروية والجامعات والمعاهد في المشروع الثقافي، ودفع الجميع إلى الانخراط في تفاصيله التي تعني الاحتفاء بكل أشكال الإبداع والمبدعين، ونشر الثقافة، وثقافة القراءة على أوسع نطاق شعبي، وتفجير الطاقات الشابة في كل الميادين.
ويتابع المدهون "ترافق هذا مع توسع ملحوظ في تشكيل لجان القراءة ونواديها، التي انتشرت بصورة ملحوظة، في السنوات الأخيرة. ما أدى الى خلق حالة من الجدل والنقاش، حول مجمل ما تنتجه الساحة الثقافية الفلسطينية".
تحت مظلة هذا النشاط، يقول المدهون، نمت وتطورت علاقات موازية بين المثقفين، وبينهم وبين المستويين الرسمي (وزارة الثقافة) والمستوى الشعبي، وهي علاقة تستحق الاحتفاء بها، كما تستحق الدراسة، إذ تبنى بصبر وجهد "دولة" للفن والإبداع والثقافة. وهذا ما أشرت إليه في كلمتي القصيرة المرتجلة، التي أعقبت تسلمي الجائزة العالمية للرواية العربية في 26 أبريل الماضي. دولة يمكنها أن تتحدى إجراءات الاحتلال الإسرائيلي، وتحقيق تفوق أخلاقي وحضاري على المحتل، يضعان روايته للتاريخ، وادعاءاته الحضارية موضع تساؤل على المستوى الدولي.
في مصر، البلد صاحب التاريخ الطويل والمركب بل المعقد أيضا مع العمل الثقافي الرسمي، تبدو أي مقاربة سليمة للمؤسسة الثقافية الرسمية قاصرة وتفتقر للدقة من دون إلمام كامل بطبيعة المهام المطلوبة وحجم التحديات الضخمة وتوفر التمويل اللازم، لكن يظل ما أنجزته وزارات الثقافة المصرية، على مدار تاريخها ومنذ بروزها على الساحة بشكل رسمي عام 1954 مع فتحي رضوان، ليس لمصر وحدها بل لمحيطها العربي والإسلامي أيضا، ضخما جدا وعسيرا على الحصر والإحصاء.
الدكتور جابر عصفور، الناقد والمفكر البارز ووزير الثقافة الأسبق، أحد الذين قدموا رؤية متكاملة وبرنامجا شاملا للعمل الثقافي الرسمي في مصر، سجل في أكثر من موضع، كتابة ومحاضرة في العديد من اللقاءات والندوات، الأدوار المنوطة بوزارة الثقافة ضمن سياق أكبر وأوسع يهدف إلى النهوض بالفكر والثقافة والوعي الثقافي الجمعي للمجتمع عموما. يقول عصفور إن وزارة الثقافة هي المسؤولة عن التراث المادي والمعنوي للأمة، والمدافعة عن إبداع المثقفين واستقلالهم، والعاملة في خدمتهم ورعاية إبداعهم، موازنة بين التراث والمعاصرة، الفردي والجمعي من الإبداع، داعمة دعم المساواة والتشجيع أنواع الإبداع الفني والأدبي، مجسدة صوت المثقفين الذي تنقله إلى الدولة بالقدر الذي تنقل صوت الدولة إلى المثقفين، هادفة في كل الأحوال إلى رعاية وحماية وإشاعة ثقافة الاستنارة، بواسطة الكلمة المكتوبة والمسموعة، المسرحية والفيلم، الكتاب والمجلة، المتاحف والمعارض.
ويضيف عصفور "ولا يجادل منصف في أن وزارة الثقافة قد أنجزت الكثير في عملية تثقيف الوعي العام، لكن لا يزال أمامها الأكثر بالتعاون مع غيرها من الوزارات ومع المثقفين على اختلاف تياراتهم"، لكن الأهم من وجهة نظره في اللحظة الراهنة أن "الوقت قد حان لإقامة حوار بين التيارات الثقافية المختلفة لصياغة استراتيجية ثقافية جديدة، يصوغها المثقفون وترعاها الوزارة، بعيدا عن وزير بعينه".
ويحدد صاحب "المرايا المتجاورة" ملامح هذه الاستراتيجية بأن تكون "مستقلة، مرنة، تحسب حساب الثوابت والمتغيرات، خصوصا تلك التي فرضتها التحولات المحلية والدولية، ويجب أن تحمل هذه الاستراتيجية الجديدة فكر المثقفين الذي يؤسس لمستقبل مغاير للثقافة المصرية، أعني مستقبلا، يؤكد حرية التعبير التي يحجر عليها بعض بيروقراطيي الوزارة، أو تدخل السلطة السياسية، أو ضغط مجموعات التأسلم السياسي".
ويرى صاحب "هوامش على دفتر التنوير" أن صياغة هذه الاستراتيجية الجديدة لن تكتمل إلا بعد إعادة النظر في أجهزة الثقافة الجماهيرية وفاعليتها، خصوصا بعد أن تركت الدولة القرى والنجوع لمشايخ التطرف الذين سيطروا على العقول، في غياب استراتيجية ثقافية جذرية، تصل إلى القرى والنجوع وتوصل إليها ثقافة الاستنارة التي تقوم على احترام العقل، وترقية الذوق الفني والحس الجمالي والسلوك المجتمعي.