فكرة الاتحاد الأوروبي شكلت رمزاً سياسياً للكثير من مناطق العالم التي حلمت بتشكيل تجمعات قادرة على مواجهة العولمة
شكلت فكرة الاتحاد الأوروبي لمدة طويلة رمزاً سياسياً للكثير من مناطق العالم التي حلمت بتشكيل تجمعات سياسية واقتصادية إقليمية قادرة على مواجهة تحديات العولمة الجديدة، بيد أن الخلفيات السياسية والجيواستراتيجية التي تقف وراء هذه الفكرة التي ما زالت تحتفظ بجاذبتها الكبرى بالنسبة لنا، تدفعنا الآن إلى طرح الأسئلة الحقيقية والمحرجة بشأن هذا الكيان الإقليمي الذي وُجد منذ البداية من أجل دعم وتوطيد هيمنة الولايات المتحدة على العالم بشكل عام، وعلى القارة العجوز بشكل خاص، ذلك أن فكرة أوروبا «الأوروبية» التي داعبت مخيلة النخب الأوروبية، اختفت فجأة وتركت المجال واسعاً لميلاد تجمع توسعي يعتمد على مقولات القوة الناعمة بحسب التعبير الأنجلوساكسوني، من أجل تقليص سيادة الدول الأوروبية ودفعها نحو تحالفات غير طبيعية تهدف إلى خدمة مشاريع الأوليغارشية العالمية بزعامة واشنطن.
ويقول الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبراي»، إنه وخلافاً لما هو سائد من اعتقاد لدى الرأي العام الدولي فإن فكرة الاتحاد في صورتها الحالية هي فكرة أمريكية وليست فكرة أوروبية، ويزيد حرص الولايات المتحدة على أن تكون فكرة توسيع الاتحاد مرتبطة ببرنامج توسيع حلف الناتو بالشكل الذي يجعل دول الناتو هي نفسها دول الاتحاد، في توطيد هذه القناعة، لأن التطورات التي حدثت تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاتحاد تجاوز مجرد فكرة السوق الأوربية المشتركة ما بين دول أوروبا الغربية الكبرى، ليصبح كياناً سياسياً مترامي الأطراف يخدم الحلم الأمريكي في السيطرة على أوراسيا التي تمثل حسب برجينسكي مفتاح السيطرة على العالم برمته.
وتذهب معظم التحليلات المتصلة بهذا الموضوع، إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية سعت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى القضاء بشكل تدريجي على النزعة القومية لدول أوروبا، واستطاعت أن توظف، في منتصف القرن الماضي، مشروع مارشال من أجل خدمة أهدافها غير المعلنة داخل القارة، كما نجحت من خلال استثمارها لما لا يزيد على 5 في المئة من حجم الموارد المالية الضخمة التي رُصدت من أجل إعادة بناء أوروبا المدمرة، في أن تتحكم بشكل كبير في التوجهات الاقتصادية والسياسية لدول أوروبا الغربية، وقامت بدفع القوى التقليدية في أوروبا، إلى التفريط في مرجعياتها السياسية والسيادية، وجعلتها تشعر- في اللحظة نفسها- أنها فاقدة لكل عناصر الحميِة الوطنية التي كانت تجعل الأمم الأوروبية تتنافس فيما بينها وتدخل أحياناً في صراعات تُسهم في تحصين هوياتها القومية، الأمر الذي يجعلها تنخرط في أتون حروب إقليمية.
أما بالنسبة إلى المرحلة الثانية من تأسيس الاتحاد التي تميزت بفتح أبوابه على مصراعيها أمام دول وسط وشرق أوروبا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فكانت بمثابة أمركةٍ مباشرة للاتحاد ولمؤسساته، لأن دول أوروبا الشرقية لا تكتفي بالدفاع عن الحضور الأمريكي، بل هي تعشقه إلى درجة الهوس، وبالتالي فمن الأصح تسميتها كما يقول «رجيس دوبراي» دول «أمريكا الشرقية»، نتيجة لانفصالها بشكل شبه كامل عن القيم التقليدية للوعي الأوروبي التي تأسست وتوطدت في القسم الغربي من القارة. وهذه الدول المعروفة بعدائها التاريخي لروسيا لا تجد أي حرج في الارتماء في أحضان المحور الأنجلوساكسوني المهيمن على العالم، وتحارب كل فكرة تهدف إلى دخول أوروبا في شراكة مثمرة مع روسيا، لأن من شأن هذه الشراكة التي يمكن أن تتأسس بناء على محور موسكو-برلين- باريس، أن تشكل قطباً عالمياً مغايراً يملك القدرة على مواجهة الهيمنة الأمريكية، وهذا ما دفع مؤخراً وزير الخارجية الروسي إلى دعوة ألمانيا من أجل مراجعة دقيقة لحساباتها قبل أن تقرر أن روسيا تمثل خصماً لها.
وعليه فإنه وبموازاة تنامي مطالب الأحزاب الوطنية واليمينية في أوروبا الغربية من أجل بناء علاقة قوية مع روسيا، فإن الولايات المتحدة تواصل سعيها اعتماداً على حلف الناتو من أجل دفع الأوروبيين إلى تبني مواقف متشددة اتجاه موسكو، بوصفها تمثل أكبر «تهديد» بالنسبة لدول القارة. كما أن حرص الولايات المتحدة على إدخال تركيا بزعامة التيار العثماني الجديد إلى هياكل الاتحاد، يهدف إلى مواصلة سعيها من أجل تقويض المفهوم الكلاسيكي لسيادة الدول الوطنية واستبداله بكيانات سياسية أشبه بالإمبراطوريات التقليدية.
ويمكن القول في هذا السياق، إن تدخل أوباما الأخير من أجل الدفاع عن بقاء بريطانيا في الاتحاد لم يكن الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، فلطالما تدخل الرؤساء الأمريكيون في مناسبات عديدة من أجل دفع العواصم الأوروبية الكبرى إلى اتخاذ مواقف مرنة من أجل المحافظة على خيار الإجماع داخل الاتحاد.
وأخيراً وليس آخراً، فإنه وبين رغبة الأوروبيين في المحافظة على كياناتهم الوطنية، والدخول في شراكة مع روسيا تجعل الاتحاد الأوروبي يمتد من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال من جهة، وسعي واشنطن بزعامة الأوليغارشية العالمية، إلى تحويل دول الاتحاد إلى محافظات إدارية، ونزع الطابع القومي والوطني عنها، وجعلها تمتد من أقصى الأطلسي غرباً إلى جبال الأناضول شرقاً بمساندة ودعم من دول «أمريكا» الشرقية من جهة أخرى، يقف الرأي العام في أوروبا الغربية أمام مفرق طريق حاسم سيكون الاستفتاء البريطاني أحد المحدِدات الرئيسية لتوجهاته ولعناصره المستقبلية، التي من شأنها رسم معالم أوروبا خلال العقود القليلة المقبلة.
المقال نقلاً عن صحيفة "الخليج" الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة