"حول الأدب والفلسفة" لنجيب محفوظ.. بالإنجليزية
في هذا الكتاب ما يدخلنا إلى عوالم أفلاطون وسقراط من أعلام الفلسفة القديمة والعصور التالية لها، فضلًا عن تناولاته لقضايا الفن والفلسفة.
حدث فارق تخلل مسيرة سيد الرواية العربية وعميدها الأكبر، نجيب محفوظ (1911-1935) اعتبره دارسوه نقطة تحول فاصلة ليس فقط في مسيرة حياته؛ بل في تاريخ الأدب العربي كله. تخرج نجيب محفوظ في كلية الآداب، قسم الفلسفة، بجامعة القاهرة، عام 1934، وقد رسخ في يقينه أن يكمل دراسته العالية في مجال الفلسفة، وأخذ يستعد لكتابة أطروحة الماجستير في موضوع علم الجمال تحت إشراف أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق.. لكن الكتابة وحب الأدب كان لهما قول آخر في حياة محفوظ، واندلع صراع عنيف في نفس وعقل الشاب النابغ، العبقري، ما بين عوالم الفلسفة وتشابكات قضاياها وبين عوالم الأدب والكتابة وفنون القول خاصة الأنواع الأدبية الجديدة على الثقافة العربية، الرواية والقصة والمسرحية.
انتصر الأدب وحسمت الكتابة الأدبية الصراع في نفس الأديب الشاب، لتكسب الثقافة العربية والثقافة الإنسانية واحدًا من أهم كتاب الرواية على الإطلاق، وواحدًا من نوابغ الروائيين في العالم كله. لكن، ورغم أن هذا الصراع كان يدور عنيفًا بداخل الأديب والكاتب ودارس الفلسفة الشاب آنذاك، نجيب محفوظ، إلا أنه عبر عن نفسه بصور وأشكال مختلفة في تلك الفترة الباكرة من عمره؛ إذ بدأ نجيب محفوظ بكتابة المقالات الفلسفية والموضوعات الفكرية في التاسعة عشرة من عمره، وكان يراسل العديد من الصحف والمجلات الثقافية المعروفة في ذلك الزمن، وخلال الفترة من 1930 وحتى 1939 كتب محفوظ العديد من المقالات الفلسفية والفكرية نشر معظمها بمجلة المجلة الجديدة، والسياسة الأسبوعية، ومجلة العصور التي كان يرأس تحريرها سلامة موسى، الذي تأثر به نجيب محفوظ تأثرًا كبيرًا في مقتبل حياته، خاصة في ما يتعلق بالاشتراكية والإيمان بالعلم الحديث، والتعمق في دراسة الحضارة المصرية القديمة، والآثار الفرعونية.
حتى حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الآداب لم تكن هذه المقالات والكتابات الأولى قد جمعت بين دفتي كتاب واحد، فأخذ بعض الباحثين والمهتمين بتراث نجيب محفوظ، ومنهم الكاتب الصحفي فتحي العشري، في جمع هذه الأعمال وإعدادها للنشر وإخراجها بين دفتي كتاب واحد. هكذا، وعن الدار المصرية اللبنانية، أخرج فتحي العشري سلسلة من الكتابات التي ضمت مقالات وكتابات قديمة لمحفوظ وقام بتبويبها وتصنيفها، بحسب موضوعاتها التي تعددت موضوعاتها بين السياسة والدين والأدب والفلسفة، والتربية والثقافة والحرية والشباب.. إلخ. وفي كل واحدة منها، وفي كل مقال من تلك المقالات يلقي الأديب النابغة بوجهة نظره في موضوع ما يشغل العالم أو الوطن العربي أو الوطن المصري.
من بين هذه الكتب، يأتي كتابه «حول الأدب والفلسفة»، الذي جمع مقالاته وكتاباته الأولى حول المجالين الأهم اللذين تنازعاه وكانا على رأس انشغالاته الفكرية والثقافية. سيجد قارئ هذا الكتاب ما يدخلنا إلى عوالم أفلاطون وسقراط وغيرهما من أعلام الفلسفة القديمة والعصور التالية لها، فضلًا عن تناولاته لقضايا الأدب والفن والفلسفة. يقول محفوظ "كانت عنايتي الأساسية بالمقالة الفلسفية، فقد كنت دارسًا للفلسفة، وكان المناخ الفكري يغلب عليه النقد وليس الإبداع، وفي الإجازات وفي بعض الأوقات كنت أكتب بعض القصص دون اهتمام جدي. وتغلب الفن على الفكر عن طريق التسلل غير الواعي حتى وصل إلى درجة قوية من الصراع الحاد الذي كان يجب أن يحسم. وحسم لصالح الفن والأدب".
لكن هذا الحسم لم يعنِ بالمرة أن نجيب محفوظ الذي كتب مقالات عن "احتضار معتقدات وتولد معتقدات"، و"عن تطور الفلسفة إلى ما قبل عهد سقراط"، و"أفلاطون وفلسفته"، و"فلسفة العقل".. وغيرها مما ضمها هذا الكتاب المهم الذي صدرت ترجمة إنجليزية حديثة له، أنه تخلى عن الفلسفة أو التفكير التأملي الشمولي في قضايا الحياة والموت والمصير، بل الثابت أن أدب نجيب محفوظ قد احتوى كل هذه القضايا والتساؤلات والانشغالات الفلسفية في ثنايا أعماله الروائية، وبصورة فنية مبدعة عبر عشرات من الروايات والقصص التي رفعت لواء الأدب العربي وجعلت من فن الرواية والقصة الشكل الكتابي الفني الأول في الثقافة العربية.
لقد كتب نجيب محفوظ هذه المقالات وغيرها، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وهو صاحب حيرة فكرية عظيمة، وتأملات فلسفية، فذة ونافذة وعميقة، وباحث شديد النهم والشغف في القراءة والفهم، وانتهى في نهاية حياته، خاصة في عمله العبقري "أصداء السيرة الذاتية"، بعدما يقرب من ستين عامًا، مترعة بالإنتاج الفني الشديد التميز والتفرد، إلى بلورة شخصية الشيخ عبد ربه التائه، التي ربما تكون في جانب من جوانبها معادلا فنيا لشخصية نجيب محفوظ نفسه.
إذن، يمثل هذا الكتاب (وتلك الكتب الأخرى المماثلة) بما تحتويه من تنوع وآراء تحمل عصارة تفكير وتأمل، قيمة فكرية وإنسانية وتاريخية مهمة تتوزع بين مجالات الحياة وجوانبها، فهي ليست مجرد مقالات كتبت في حينها ومضى عهد فائدتها وإنما هي كلمات تستحق المطالعة والدراسة، كلمات أديب وفيلسوف عاصر العديد من الأحداث والعهود وتوج حياته الزاخرة بالحصول على جائزة نوبل العالمية في الآداب عام 1988، ليكون أول مصري وعربي يحصل على الجائزة المرموقة.
aXA6IDMuMTQ1LjU3LjUg
جزيرة ام اند امز