«عبث الأقدار» لنجيب محفوظ.. سيرة رواية
الرواية الأولى لمحفوظ نشرها سلامة موسى في 1939 وغيّر عنوانها إلى «عبث الأقدار» وتحولت إلى مسلسل تلفزيوني في 2000 بعنوان «الأقدار»
ضجة كبيرة أثيرت الأيام الماضية حول إحدى طبعات رواية قديمة لنجيب محفوظ، صاحبتها حملة شعواء ضد دار النشر بدعوى تلاعبها في عناوين أعمال صاحب نوبل، بل وصل الأمر إلى اتهام الدار بأنها تمالئ التيار الإسلامي، وأنها غيرت العنوان بدافع ديني وذريعة أخلاقية! هكذا تداولت مواقع التواصل الاجتماعي صورة غلاف لإحدى روايات نجيب محفوظ بعنوان «عجائب الأقدار» وقال أصحاب هذه الصورة ومن تناقلوها عنهم، إن دار الشروق قد أصدرت طبعة من أول روايات محفوظ، وأنها غيرت في العنوان، دون إذن أو استئذان من الورثة، وهو ما قوبل بعاصفة من الغضب والاحتجاج وتم تدشين حملة نارية ضد دار النشر.
أصدرت الدار بيانًا ردت فيه على الاتهامات الموجهة إليها، وللحقيقة فإن أي متصل بأدب نجيب محفوظ وتاريخه والمدقق في طبعات أعماله، يعلم أن هذه الحملة قامت على غير أساس ولا سند، فالثابت أن هذه الطبعة التي صدرت عام 1989، كانت واحدة من أربع أعمال اتفقت دار الشروق مع صاحب نوبل على إصدارها ميسرة للناشئة والشباب، على أن يقوم بتبسيطها محمد المعلم نفسه (صاحب دار الشروق آنذاك) ويرسم لها اللوحات الداخلية والغلاف الفنان حلمي التوني.
كل هذا ثابت ومعلوم، وشهوده أحياء يرزقون، كما أن الثابت أيضًا أن نص رواية «عبث الأقدار» وكما نشرت في صورتها الأولى، مطبوعة ومتداولة بالعنوان ذاته، وفي طبعات متعددة عن الشروق منذ العام 2006 وحتى الآن.
لكن هذا الجدل المثار كشف عن غياب كامل لسياق الحقائق التاريخية، والمعلومات الثابتة، في كل الكتب والببليوجرافيات التي أرخت لمحفوظ، وكشفت أيضًا عن سوء ظن مبيت في أوساط النخب الثقافية تجاه العديد من القضايا التي يعلو فيها الصوت، ويخفت فيها العقل، وتتوارى فيها الحقائق لحسابات خاصة أو ميول شخصية. وفي حمى الاعتراضات والاحتجاجات والرفض، نسي أو تناسى الكثيرون ومنهم أسماء معروفة في الوسط الثقافي أن هذه الطبعة التي صدرت عام 1989 كانت بعلم وموافقة نجيب محفوظ، بل إنه هو الذي طلب تغيير العنوان لعلمه أنه ستعد للناشئة والشباب، وهكذا ظهرت هذه الطبعة من «عبث الأقدار» بعنوان «عجائب الأقدار».
سيرة أول رواية كتبها محفوظ
«عبث الأقدار» هي أولى روايات نجيب محفوظ نشرها عام 1939، في «المجلة الجديدة» لصاحبها سلامة موسى، الأستاذ الأول لنجيب محفوظ وصاحب التأثير الكبير عليه في بداية حياته. ويكشف جابر عصفور في كتابه «نجيب محفوظ ـ القامة والقيمة» أن سلامة موسى هو الذي أغرى تلميذه النجيب (الذي كانت ميوله الروائية قد أخذت في الظهور) بتأليف روايات عن التاريخ الفرعوني.
كان سلامة موسى من دعاة الفرعونية والاعتداد بالتاريخ المصري القديم والكشف عن الأبعاد التاريخية للهوية المصرية. تأثر محفوظ بشدة بأفكار أستاذه، خصوصًا وأن هذه الفترة كانت مشبعة بأصداء الاكتشافات الأثرية المذهلة خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، قرر محفوظ أن يرتاد طريق الرواية التاريخية، ويروي فؤاد دوارة في كتابه «عشرة أدباء يتحدثون» عن نجيب محفوظ قوله: "هيأت نفسي لكتابة تاريخ مصر القديم كله في شكل روائي على نحو ما فعل والتر سكوت في تاريخ بلاده، وأعددت بالفعل أربعين موضوعًا لروايات تاريخية رجوت أن يمتد بي العمر حتى أتمها، وكتبت ثلاثًا منها بالفعل؛ هي: «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة».
وبالفعل أتم محفوظ كتابة روايته الأولى سنة 1938، وقام سلامة موسى بنشرها له سنة 1939، وكان موسى في ذلك الوقت - بحسب ما كتبه ابنه رؤوف عن علاقة أبيه بنجيب محفوظ - يعمل في كتابه «مصر أصل الحضارة». وقد أنجبت له زوجته ابنًا ذكرًا سماه «خوفو»، فاقترح نجيب محفوظ عليه أن يكون اسم روايته «خوفو»؛ لأنها تدور حول هذا الفرعون العظيم. ولكن سلامة موسى رفض، ورأى أن الاسم لا يصلح عنوانًا للرواية، واختار لها عنوان «عبث الأقدار» لجاذبيته، ووافق نجيب محفوظ على التسمية التي اختارها أستاذه للرواية التي نشرها في منشورات «المجلة الجديدة». فكانت أولى رواياته الفرعونية التي ظهرت بعد سبع سنوات من ترجمته الكتاب الذي ظل وحيدًا دالًّا على المجال الذي انجذب إليه محفوظ الروائي الشاب، المفعم بالحس الوطني الصاعد في مناخ مُوَاتٍ صنعته ثورة 1919.
أما «عبث الأقدار» أو «أبناء خوفو» فتدور أحداثها في فترة من أنصع فترات التاريخ الفرعوني القديم، وهي فترة بناء الهرم الأكبر في عهد خوفو، تبدأ أحداثها بعراف عجوز يقرأ المستقبل للملك خوفو، ويتنبأ له بأنه لن يجلس على عرش مصر أحد من ذريته من بعده بمن في ذلك ولي عهده "رعخعوف"، وأن من سيتولى عرش مصر من بعده طفل حديث عهد بالوجود هو ابن الكاهن الأكبر لمعبد "أون"، وتتصاعد الأحداث بدءًا من تحدي خوفو لهذه النبوءة ومحاولته قتل ذلك الطفل، لكن الأقدار تنتصر عليه، فلا يموت الطفل، بل يحيا إلى أن يصل إلى أعلى المراتب، ويوليه خوفو بنفسه عرش مصر بعد أن قتل ولي عهده وتزوج ابنته.
كانت «عبث الأقدار» باكورة إنتاج محفوظ الروائي، وتحتل موقعها كأولى رواياته التاريخية في تلك المرحلة الباكرة من إبداعه، ولم تثر منذ ظهورها أي شيء باستثناء اعتراضات أنصار التيار الديني الذي ينظر إلى أدب محفوظ بتوجس وريبة، بل وصل الأمر إلى اعتباره أي محفوظ محرضًا على الرذيلة والفحشاء وأن رواياته لا دينية (هكذا) وكانوا يستشهدون في ذلك بعنوان روايته الأولى "عبث الأقدار" دون التطرق لا لمحتواها ولا دلالاتها الفنية أو الرمزية أو حتى التاريخية المحض.
وفي سنة 2000، تحولت «عبث الأقدار» إلى مسلسل تليفزيوني بعنوان «الأقدار» فقط بعد حذف كلمة "عبث"، كتب له السيناريو والحوار محمد الغيطي، وأخرجه خالد بهجت وقام ببطولته عزت العلايلي، وأحمد سلامة، وعبد الله محمود، وأحمد راتب، وسمية الألفي، وسوسن بدر، ومحمد نجاتي، ورياض الخولي. وحينما حولت الرواية إلى مسلسل بعنوان «الأقدار» بعد حذف كلمة "عبث" برر صناعه بأنه تفاديًا لأي حساسية قد يفهمها البعض ويرى فيها تعارضا مع المفاهيم الدينية.