أطفال سوريا.. يلهون بمفردات الموت ويرسمون مستقبلهم في تابوت
"أوصيكي يا أمي أن تظلي تتذكريني، وأنت يا أختي قولي لرفاقي أنني مت وأنا جائعة".. وصية طفلة سورية تنتظر الموت جوعا.
"أوصيكي يا أمي أن تظلي تتذكريني، وتتذكري ضحكاتي المتتالية، وأنت يا أختي قولي لرفاقي أنني مت وأنا جائعة، وأنت يا أخي لا تحزن علي، وتذكر أنني وإياك كنا جائعين، ويا ملك الموت هيا اقبض روحي لكي آكل في الجنة".
عبارات قاسية كتبتها الطفلة السورية رهف، كوصية لأهلها، عندما شعرت بتمزق أحشاءها بعد يومين متتالين من الجوع الشديد الذي فرضه الحصار المطبق على بلدة مضايا، شمال غرب العاصمة السورية دمشق منذ أكثر من خمسة أشهر.
رهف صاحبة الأعوام العشرة، رسمت إلى جانب وصيتها صورة لطفلة في تابوت، مذيلة إياها بعبارة "هذا هو نعشي" ووضعتها تحت وسادتها ونامت استعدادا للموت، بعدما سئمت انتظار والدتها التي ذهبت باحثة عن طعام لن يملأ معدة اشتد بها الجوع.
تواجه رهف الموت في بلدة مضايا المجوَّعة مع أربعين ألفا آخرين من المدنيين المهجرين قسريا من مدينة بلودان ومن الأحياء الشرقية لمدينة الزبداني؛ ولا يأكل هؤلاء إلا ما توفر من حشائش الأرض وما تبقى على الأشجار من ورق.
ومع دخول الشتاء ونفاذ مخزون الخضراوات ووسط تحركٍ خجول من منظمات الأمن الغذائي العالمية، يزداد الوضع مأساة وظلما.
وسجلت بلدة مضايا الأسبوع الماضي أول حالة وفاة بسبب الجوع لامرأة تبلغ من العمر 48 عاما، بحسب الأهالي في المنطقة.
رهف ليست الطفلة الوحيدة التي شعرت بدنو أجلها، فالطفلة يمنى من مدينة دوما المحاصرة في غوطة دمشق الشرقية، كتبت وصيتها هي الأخرى عندما سمعت نبأ استشهاد صديقتها المقربة "لجين".
"سمعت صوت دوي مرعب، عرفت أنه للطائرة الغادرة، ويبدو أنه قريب من منزلنا، نزلت قبو البناء بخوف، ومضى وقت طويل وإذا بزوجة خالي تنزل درج القبو مسرعة ومذعورة".. تقول يمنى.
وتروي يمنى: "أخبرتنا زوجة خالي أن فتاة من عائلة المدور استشهدت للتو، لا أعرف لماذا تخيلت صورة صديقتي لجين، أخذت أدعو ألا تكون هي، وبعد دقائق سمعت مؤذن الجامع يقول انتقلت إلى رحمته تعالى الشهيدة الطفلة... وقبل أن يكمل بدأت أبكي".
"حزنت كثيرا، إنها صديقتي، البارحة كانت هنا، رأيتها في الشارع قبل القصف بدقائق معدودة، وبدقائق معدودة أيضا ذهبت ولم تعد،" تتابع يمنى.
يمنى صاحبة الأعوام العشرة، تأبى أن تشارك أحد بالوصية التي كتبتها، "فهي شيء خاص" كما تقول، لكن وبالإجابة عما دفعها لذلك أجابت: "لما استشهدت صديقتي تمنيت أن تكون قد كتبت وصية قبل موتها فأحقق لها ما تمنته، كتبت وصيتي لمن يحبونني".
وتفخر يمنى لكونها صديقة لفتاة "أخلاقها عالية لدرجة استحقت الشهادة، واستطاعت أن تنال هذه المكانة العالية في الجنة وعند الله".
وعلى عكس قصص العديد من الأطفال في المناطق المحاصرة، الذين أبدوا رغبتهم بالاستشهاد لينالوا الجنة ويأكلوا ما طاب لهم هناك، أخبر حذيفة أهله عن كرهه للجنة، وكان يردد "أنا أكره الجنة، لأن الجميع يذهب إليها" مرارا وتكرارا.
مأساة حذيفة، الذي يبلغ من العمر 9 أعوام، ابتدأت عندما أًخرج وإخوته من تحت ركام منزلهم، من أصيب ومن فقد، وكان الفقد الأكبر هو الابن البكر للعائلة إذ استشهد متأثرا بجراحه.
هبة شقيقة حذيفة (25 عامًا) تقول: "كان مصابنا كبيرا لدرجة لم يع فيها أحدنا كيف نتعامل مع حذيفة، فقدنا بيتنا وأخانا، كل منا مكبل بجراح وإصابات، انتقلنا إلى منزل أقاربنا فاقدين كل خصوصية الموت ومواساته، لم نستطع حتى البكاء لوحدنا، كانت مشاعرنا مفتوحة أمام الجميع".
نتيجة كل هذا لم يتثنى لحذيفة أن يفهم ما الذي جرى، ولم يكن لدى أهله الوقت ليشرحوا له، وكلما سأل حذيفة عن أخيه تكون الإجابة "ذهب إلى الجنة… شهيد في الجنة بإذن الله".
لم ير حذيفة في الجنة هذا المكان الجميل، لم ير أنهارها وفواكهها التي أخبره أهله عنها، وبقيت أمامه حقيقة واحدة هي أن الجنة أخذت أخاه واستأثرت به، وأنها تأخذ كل شخص يختفي في عائلتهم فجأة.
ببساطة شديدة، ومن دون إذن، اجتاح الموت عالم أطفال سوريا الملوّن ووشّحه بالسواد، واختفت طفولتهم أمام شبح يخطف العشرات من حولهم كل يوم.
aXA6IDE4LjExNy43NS4yMTgg جزيرة ام اند امز