ربما يكون الرئيس التركى نجح فى إفشال واحد من أخطر الانقلابات العسكرية، ليثبت بالفعل أنه كما يقول عوام الأتراك يملك أرواح 7 قطط أشقياء
ربما يكون الرئيس التركى رجب طيب أردوغان نجح فى إفشال واحد من أخطر الانقلابات العسكرية التركية، ليثبت بالفعل أنه كما يقول عوام الأتراك يملك أرواح 7 قطط أشقياء!، لكن الأمر المؤكد أن مكانة تركيا الدولية والإقليمية قد تضررت على نحو بالغ يحتاج إصلاحه إلى زمن طويل!، كما أن قدرة تركيا العسكرية، المتمثلة فى المؤسسة العسكرية، ثانى أكبر قوى حلف الناتو، قد تعرضت لإهانات شديدة أفقدتها الكثير من مصداقيتها وخسر الجيش التركى الكثير من سمعته.. ناهيك عن الأضرار الاقتصادية الضخمة التى لحقت بتركيا!.
وإذا كان نصف الشعب التركى المنقسم على نفسه والموالى لرجب طيب أردوغان يشعر بنوع من الإحساس بالفخر لأن الانقلاب العسكرى فشل، فإن نصف الشعب التركى الآخر الذى يعارض سياسات «أردوغان» يضع يديه على قلبه، خوفاً من أن يشتط «أردوغان» فى انتقامه، ويتجاوز تطبيق القانون على الذين تورطوا فى مؤامرة الانقلاب (6 آلاف عسكرى و2800 رجل قضاء) ليتخلص من كل خصومه ومعارضيه السياسيين، ويواصل نهجه القديم نحو التفرد بالسلطة مسلحاً بأحداث الانقلاب، يفرض حكمه المنفرد ويضرب الديمقراطية التركية فى مقتل!.
وتثبت أحداث الانقلاب وخسائره أن الانقلاب لم يكن مجرد تحرك محدود لقلة من الجيش التركى، كما أعلن «أردوغان» عبر هاتفه الجوال إلى إحدى محطات التليفزيون التركية وهو لا يزال فى ملجئه البعيد فى الأناضول، على العكس يبدو واضحاً من حجم القتلى الذين لقوا مصرعهم فى الشوارع 269، وحجم المعتقلين العسكريين (6000) أن الانقلاب كان عملاً كبيراً شارك فيه آمر قاعدة إنجرليك الجوية التى تستضيف القوة الأمريكية وتنطلق منها عمليات القصف الجوى على «داعش» فى سوريا والعراق، وقائد القوات الجوية التركية، عضو المجلس الأعلى العسكرى، الذى لعب دوراً رئيسياً فى الانقلاب، وسمح لطياريه من قادة إف 16 والأباتشى أن يقصفوا البرلمان التركى ومبنى المخابرات الوطنية ويضربوا بالقنابل الجماهير فى الشوارع، كما وضع قائد القوات الجوية تحت تصرف الانقلاب القاعدة الجوية الرئيسية فى أنقرة، إضافة إلى قاعدة إنجرليك، وقائد الجيش الثانى المسئول عن حماية الحدود السورية التركية، وقائد الجيش الثالث الذى يملك أكبر قوة برية فى الجيش التركى، وقائد حرس الحدود الأدميرال حقان أوستيم، بما يؤكد أن الانقلاب كان عملاً ضخماً وكبيراً!،
وربما يكون الفارق بينه وبين انقلاب الستينات أن الانقلاب الأخير جرى فى عصر المحمول الذى مكّن «أردوغان» وهو على مسافة آلاف الأميال من عاصمته من التواصل مع إحدى محطات التليفزيون التركية، داعياً جماهير حزب العدالة والتنمية إلى النزول إلى الشوارع ومواجهة دبابات الانقلابيين فى صورة أضفت على المشهد التركى قوة المجتمع المدنى، وأعادت إلى الأذهان ذكريات ميدان تيان مين فى الصين عندما وقف الشباب الصينى بصدوره العارية فى وجه الدبابات!.. صحيح أنه فى أنقرة وإسطنبول كان هناك مؤيدون للانقلاب كما كان هناك معارضون، لكن الإهانات البالغة التى تعرّض لها جنود وضباط الانقلاب أكلت من مصداقية القوات المسلحة التركية التى كانت دائماً جزءاً من فخار شعبها!.
وإذا كان عصر المحمول يشكل سبباً رئيسياً لفشل الانقلاب، فإن ثمة أسباباً أخرى أهمها أنه رغم اشتراك عدد ضخم من العسكريين بقى كثير من أفرع القوات المسلحة خارج الانقلاب، كما أن الأحزاب المدنية التركية رفضت مساندة الانقلاب رغم سوء تعامل رجب طيب أردوغان معها، وبالطبع لا يمكن إعفاء الرئيس التركى وحزبه، العدالة والتنمية، من مسئولية حدوث الانقلاب، ليس فقط لجنوح «أردوغان» المتزايد للتفرد بالسلطة وتكميمه حرية التعبير، ومطاردته الصحفيين والأكاديميين وكل صاحب رأى مخالف، وتصفيته الكاملة لكل محطات التليفزيون غير الموالية له ولكن لأن سياسات «أردوغان» على امتداد الفترة الأخيرة ألحقت الأذى بمصالح شعبه بتورطه فى نزاعات مسلحة مع معظم جيرانه على غير رغبة الشعب التركى، وحماقاته فى معالجة مشكلة الأكراد الذين يشكلون نسبة تربو على 15% من الشعب التركى ويتركزون جنوبها وجنوب شرقها التى أدت إلى نشوب حرب أهلية ضارية ألحقت ضرراً بالغاً بأمن تركيا، وسببت الكثير من التفجيرات المروعة فى إسطنبول وأنقرة، فضلاً عن مبالغته فى عداء مصر مساندة للتنظيم الدولى لجماعة الإخوان المسلمين على عكس رغبة الأتراك، ويزيد على جميع ذلك جنوحه المتزايد نحو الطغيان والانفراد بالسلطة!.
وما من شك أن «أردوغان» لمس عن قرب عدم حماس قوى المجتمع الدولى لاستمرار حكمه ونظامه بما فى ذلك الإدارة الأمريكية التى تلكأت كثيراً قبل أن تصدر بياناً واضحاً صريحاً يدين الانقلاب العسكرى ويدعو إلى مساندة الحكومة المنتخبة، مكتفية بتصريحات شكلية لا تقول كثيراً، أصدرها وزير الخارجية الأمريكية، جون كيرى، تدعو إلى تجنب العنف والاقتتال، والاتحاد الأوروبى الذى تطابقت مواقفه من الانقلاب مع الموقف الأمريكى، ولعل «أردوغان» قد استوعب الدرس، خاصة أن الأمريكيين والأوروبيين لم يملوا انتقاد مواقفه سواء بالنسبة لسوريا أو الأكراد أو «داعش» بما فى ذلك نزوعه المتزايد للانفراد بالسلطة على حساب الديمقراطية التركية.
وقد كان الطرفان، الأمريكيون والأوروبيون، يروجون قبل عدة أعوام لنظام «أردوغان» باعتباره المثال الذى يمكن أن يصلح لحكم العالمين العربى والإسلامى لنجاحه فى التوفيق بين الديمقراطية والإسلام وجهوده التنموية الضخمة التى غيّرت أوضاع تركيا الاقتصادية على امتداد 13 عاماً حكم فيها «أردوغان» تركيا.. والآن تكاد تكون النتيجة صفراً رغم فشل الانقلاب، خاصة بعد الضرر الجسيم الذى لحق بالدور الدولى والإقليمى لتركيا، والهزة الضخمة التى ضربت مصداقية المؤسسة العسكرية التركية وتمثلت فى استخدام قاعدة إنجرليك الجوية مركز انطلاق أساسى لعملية الانقلاب!.. ويكاد ينحصر هاجس كل تركى لا ينتمى إلى حزب العدالة والتنمية فى الخوف الشديد من أن تؤدى عمليات الانتقام ومحاكمة المسئولين عن الانقلاب والمشاركين فيه إلى إعطاء مساحة أوسع للرئيس التركى «أردوغان» الذى يستهدف توسيع سلطاته وحصار وتصفية خصومه ومنافسيه إلى الحد أن البعض يعتقد أن «أردوغان» أوقع أنصاره فى فخ خبيث بهدف كسب المزيد من السلطة.
والحق أن «أردوغان» لم يقصر فى مسئوليته عن خلق أعداد هائلة من الخصوم سواء على مستوى الداخل أو الخارج، كما ضرب داخل حزبه كل الأجنحة التى ترفض تسلطه وترفض سياساته فى إشعال الحرائق داخل سوريا أو إثارة الحرب الأهلية مع الأكراد، فضلاً عن الفساد الذى استشرى داخل أسرته ومكن ابنه الأكبر «بلال» وصهره من الاستحواذ على المال العام، لكن أخطر ما فعله «أردوغان» أنه قسّم الشعب التركى إلى حد أصبح السؤال الرئيسى فى الشارع التركى الآن: أين تقف مع «أردوغان» أم ضده؟!، وأظن أن تركيا سوف تعيش هذه الأزمة إلى زمن طويل قادم مع تزايد نزعات الرئيس التركى إلى الانتقام والتسلط، وبرغم أن «أردوغان» يحمّل مسئولية الانقلاب العسكرى إلى شريكه السابق فتح الله جولن، الذى يقيم فى ولاية بنسلفانيا ويدير عدداً ضخماً من المدارس الخاصة فى تركيا وآسيا ويتمتع بنفوذ ضخم فى أوساط القضاء والشرطة والأمن التركية إلى حد أن «أردوغان» يتهمه بإنشاء حكومة موازية داخل تركيا!، ويطالب واشنطن بضرورة تسليمه فوراً كى يمثل أمام العدالة التركية باعتباره مهندس الانقلاب الأخير، إلا أن عملية تسليم عبدالله جولن لن تكون سهلة لأن الأمريكيين يطالبون «أردوغان» بتقديم الأدلة القانونية التى تثبت تورطه فى المؤامرة، وثمة احتمالات قوية فى أن تصبح قضية تسليم عبدالله جولن إحدى المشاكل التى تعيق تقدم العلاقات التركية الأمريكية رغم حرص واشنطن المتزايد على المساعدة فى لملمة جراح تركيا بأسرع وقت ممكن كى تتمكن من استئناف عملياتها ضد «داعش» فى سوريا والعراق التى تنطلق من قاعدة إنجرليك.
*نقلا عن جريدة "الوطن"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة