الهدف الإيراني في العراق تجاوز تحقيق النفوذ بالجوار إلى العمل للتحكم في المصير، وقد تخطى الجدل على صحة هذه المقولة إلى الأمر الواقع
الهدف الإيراني في العراق تجاوز تحقيق النفوذ بالجوار إلى العمل للتحكم في المصير، وقد تخطى الجدل على صحة هذه المقولة إلى الأمر الواقع، على رغم «حال الرفض» العربي في الساحة العراقية التي تغذيها السياسة الطائفية وثقافة الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية وأحقاد الحشد الشعبي، التي عرّت ما تدعيه الحكومة المركزية وما يحاوله بعض العرب خوفاً من الوقوع في خطيئة الاحتماء بالتنظيم الإرهابي «داعش».
والتغلغل الإيراني - كما هو معروف للجميع - بدأ قبل الانسحاب الأميركي الكامل عام 2011، حين ترك فراغاً اندفعت طهران لملئه في غياب عربي أرادته أميركا منذ غزوها 2003. وعلى رغم أن واشنطن لا تزال توهم الكثيرين بأنها لم «تخسر» العراق، فإن الحقائق على الأرض تكذّب هذا الادعاء، إلا إذا كان المقصود به أنها «باعت» العراق لطهران ضمن «صفقة» تفاهمات حول مجموع المصالح المشتركة في المنطقة. ومن الدلائل على هذا أن سياسيين أميركيين شاركوا في إدارة العراق بعد الغزو لا يخفون تلك الحقيقة، ومنهم السفير لدى العراق وأفغانستان ومندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة زلمان خليل زادة، الذي كتب مقالة في وقت باكر، يعترف فيه بأن هناك شبه قناعة في دوائر القرار الأميركي بخسارة العراق لمصلحة الإيرانيين، وأن «أفضل ما يمكن أن تقوم به أميركا هو القضاء على «داعش»، وإقامة علاقة مميزة مع كردستان المستقلة أو شبه المستقلة».
وهذا الذي اعترف به زادة هو ترجمة فعلية لما يجري على أرض الواقع، فعلى رغم أن إدارة الرئيس أوباما تريد أن ترى الموصل محررة من قبضة «داعش» قبل انتهاء ولايته إلا أن الحسابات الإيرانية مختلفة، وهذا ما يزيد الأمر تعقيداً ووضوحاً في الوقت نفسه ويفتح الأبواب على مخاطر جمة، بعضها مرتبط بعملية التحرير نفسها من الناحية العسكرية والسياسية، وبعضها، وهو الأخطر والأكثر تعقيداً، مرتبط بإدارة المحافظة ومثيلاتها بعد التحرير وضبط الأمن، وطمأنة أهل المنطقة بإجراءات عملية تحميهم من إجرام الحشد الشعبي وأحقاده، وإيقاف السياسة الطائفية الهادفة إلى تغيير التركيبة الديموغرافية في المحافظات العربية السنية.
والسيطرة الإيرانية تجاوزت صيغة تقديم المشورة العسكرية والدعم اللوجستي والمساندة السياسية وفرض العملاء على الحكومة العراقية ومشاركة الحشد الشعبي في عمليات تطهير مناطق العرب السنة، تجاوزت كل ذلك إلى فرض مشاركة الحرس الثوري الإيراني في عملية «تحرير» الموصل. وأثبتت المعلومات وجود معسكر إيراني، بمثابة قاعدة عسكرية، داخل الأراضي العراقية، يقوم بتدريب كتائب الحشد الشعبي عسكرياً وروحياً، وهذا يعني أن «تحرير الموصل» عنوان عريض ستدخل تحت ذريعته العناصر الإيرانية، لتصفية حساباتها مع المكون العربي الذي وقف ضد أطماعها، وما يزال يقدم التضحيات الكبرى حتى لا تذوب عروبة العراق في حرائق الطائفية التي يوقدها الحاقدون على هذا البلد، الذي مثّل نموذج التعايش بين جميع الطوائف والأديان على مر العصور.
إن الحملة التي تخطط لها إيران، برعاية أميركية، منحتها مشروعية قانونية تحت مظلة التحالف الدولي، لضم الموصل إلى حيازتها، تضع العرب العراقيين السنة أمام خيارات صعبة في ظل عدم وجود معين عربي يخفف عنهم الظلم تحت وطأة الجنون «الداعشي» الذي يشوه حقيقتهم ويزيف مشاعرهم نحو وطنهم، ويضعف موقفهم حين يصورهم متعاطفون معه، ويزيد من قتامة الصورة وظلمها وتغييبها للوعي استمرار الآلة الإعلامية الدعائية في تلخيص موقف سكان المحافظات العربية السنية في ما يصدر عن التنظيم الإرهابي من أعمال وتصرفات لا يقبلها دين ولا إنسانية، وهذه الصورة الشوهاء تسهم في تسهيل مهمة الطائفيين أدوات إيران في إحكام قبضتهم على العراق وفرض هيمنتهم على جميع ترابه وسلب الرافضين لهذه الهيمنة أية قدرة على مقاومتها.
في ظل هذه الظروف يبرز سؤال ملح: ماذا يستطيع العرب أن يقدموا لإخوتهم السنة في العراق لحمايتهم من توحش الحشد الشعبي الطائفي الذي يقف على أطراف الموصل مترقباً لحظة الانطلاق للانتقام، تحركه طائفية صفوية على يد فئات أعمتها المصالح الضيقة عن حقوق وطن كبير؟
وقبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال المدبب لا بد من التأكيد على أن «إذابة» الرفض الإيراني في الجسد العراقي يعد هزيمة استراتيجية في وجه أطماعه التوسعية، وخطوة تدفع باتجاه المزيد من إضعاف العرب وسلبهم جزءاً أصيلاً من قوتهم ومنعتهم وإمكاناتهم لمواجهة الأخطار الخارجية.
ليس خافياً أن التنظيم الإرهابي «داعش» وما يمثله من فكر يشكل عبئاً أمنياً ودينياً وأخلاقياً على الأمن العربي، وأن محاربته والمشاركة في كل الجهود الدولية الرامية إلى القضاء عليه أمر ضروري، بل يدخل في أولويات الذين يريدون أن يدفعوا عن أمن واستقرار أوطانهم الشرور والقلاقل. لكن هذا الأمر المجمع عليه يجب ألا يغيّب حقيقة أن الحشد الشعبي الطائفي الذي تحركه إيران وتقوده جنرالاتها وعملاؤها في العراق، و«تتستر» الحكومة المركزية على جرائمه وفظائعه ضد بعض مواطنيها، ولا تمانع في نشاطه الدول الكبرى، هو كيان إرهابي وحشي لا يقل خطراً عن المجموعات الإرهابية الأخرى، فالجميع يهدد الأمن والاستقرار في هذه المنطقة ويبث الكراهية والتباغض ويعمق الهوة بين طوائف المجتمعات.
والعرب في هذا الظرف لا يملكون الكثير من الأوراق ليلعبوها في المسألة العراقية إذا ظلوا «متفرقين»، لكن إذا أدركوا خطورة «التهام» إيران العراق بكامله فإنهم يستطيعون تدارك ما تبقى من هذا البلد العربي المهم لأمن المجموعة كلها، وأقل ما يمكن أن يقدمه العرب للعراق في هذا التوقيت الحرج أن تتحد كلمة الدول العربية الفاعلة ضد مشاركة الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني في معركة الموصل، وربط ذلك المطلب بالمصالح المشتركة مع الدول الكبرى (أميركا وروسيا وفرنسا وألمانيا) والتحرك لخلق جبهة وطنية عراقية والوقوف معها بكل الإمكانات لمحاربة «داعش»، ووضع آليات وترتيبات مع بغداد، تحول دون تسليم ضحايا الإرهاب الهاربين من ميدان المعارك إلى الطائفيين للانتقام منهم.
معركة تحرير الموصل من الإرهاب تبدو معركة عسكرية، لكنها في الواقع تحمل أبعاداً أعمق، لها ما بعدها، فهل يضعها العرب حيث يجب أن تكون؟
نقلاً عن " الحياة "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة