"مسالك وعرة" .. كتاب يُلخِّص تجربة طارق متري في ليبيا
قد يكون طارق متري معروفًا لبنانيًّا، كوزير سابق، لكنه قبل ذلك، هو باحث، له مساهمات في "الحوار المسيحي ـــــ الإسلامي" في لبنان والمشرق.
قد يكون طارق متري معروفًا لبنانيًّا، في الأوساط العامة، كوزير سابق، لكنه قبل ذلك، هو مثقف نشط وأكاديمي وباحث له مساهمات ملحوظة في "الحوار المسيحي ـــــ الإسلامي" في لبنان والمشرق. وهو اليوم مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والعلاقات الدولية، في الجامعة الأمريكية ببيروت.
أصدر كتابين، "سطور مستقيمة بأحرف متعرجة" عن المسيحيين الشرقيين وعلاقاتهم بالمسلمين (دار النهار وجامعة البلمند 2007) و"مدينة على جبل؟ عن الدين والسياسة في أمريكا (دار النهار 2004).
برز متري بعد "انتفاضة الإستقلال" اللبنانية (2005)، وتولى وزارة الثقافة، ثم وزارة الخارجية بالوكالة، حيث لمع كدبلوماسي مرموق في المنتديات الدولية .. وهذا ربما كان الحافز ليعينه الأمين العام للأمم المتحدة ممثلًا خاصًّا له في ليبيا من العام 2012 وحتى العام 2014.
هذه التجربة الليبية كتبها طارق متري في كتاب بعنوان "مسالك وعرة ـــ سنتان في ليبيا ومن أجلها"، الذي صدر عن دار رياض الريس (بيروت 2015). يقول متري: لا يقف هذا الكتاب عند حدود السرد، رغم أنه بمثابة مذكرات. فهو يتأمَّل في الواقع الليبي ما بعد ثورة 2011، من منظور المهمة الأممية التي كُلفت بها. ويقوم بمحاولة تفسير تتناول عسر التحول الديمقراطي من غير جانب. وكذلك يصف وعورة الطريق إلى إعادة بناء الدولة، محاذرًا رد النزاعات الداخلية إلى واحد من أسبابها، مع أنه يظهر أولوية الخلاف على الشرعية، بوصفه مرآة الصراع العاري على السلطة و"الغنيمة" .. غير أنه لا يُغفل الأثر الكبير لما خلفه حكم القذافي من خراب وعنف.
يروي متري بالتفصيل عثرات ومشقات مهمته الدبلوماسية، لكنه أيضًا يكتب كباحث في الاجتماع السياسي، متحدثًا ومشخِّصًا هشاشة البنى الوطنية وضعف روابط التضامن العابر للمناطق وتضعضع التماسك الاجتماعي. لكنه لا يرجح نمو حركات انفصالية. ذلك أن الهوية الوطنية الليبية، حسب رأيه، تشكلت في التاريخ الحديث وما زالت موضع تأكيد تجاه الهويات ما فوق الوطنية أو ما دون الوطنية. غير أن غياب الدعوى إلى تقسيم ليبيا لا يخفي احتمالات التفكك الفعلي وتحكم المصالح والولاءات المناطقية بالسلوك السياسي للنخب الليبية، التقليدية أو الجديدة. وهذا ما يعرفه طارق متري تمامًا فيما اختبره ببلده لبنان.
يجهد متري في الابتعاد عن التبسيط السائد لتفسير الفوضى الليبية وصراعاتها المسلحة، فليس الأمر مجرد مواجهة بين الإسلاميين والليبراليين، وهي جزء من مواجهة عنيفة تتعدى ليبيا إلى العالم العربي برمته، وليست مسألة صراع قبائل أو مناطق، وليست فقط تنافسًا عنيفًا على تقاسم السلطة ..
إنها هذه الأمور معًا مضاف إليها عوامل خارجية وداخلية، مستجدة وتاريخية، تبدأ من معنى الدولة الوطنية ولا تنتهي بمسائل الشريعة وشرعية الحكم والديمقراطية والخيارات الاقتصادية وأيديولوجية الدولة المأمولة.
لا يؤرخ هذا الكتاب لسنتين من عمر ليبيا على نحو مستفيض، فهو يتوقف عند أحداث، ويعرض عن أخرى، متتبعًا ما عاينه طارق متري مباشرة وقام به خلال عاميّ إقامته الليبية. إنه أقرب إلى شهادة تتوخى الدقة ولا تنقصها الصراحة، وتتسم بأسلوب المذكرات من غير تطويل، فالفصل الأول يتناول ما تعلمه هو من الواقع الليبي، ومعوقات مهمته الأممية وحدودها والتباساتها، كالمشي في حقل ألغام.
أما الفصل الثاني، فيسرد بذكاء وحذر كيفية بروز مشكلات ما يُسمَّى "التحول الديمقراطي"، أي بناء الدولة العادلة ومؤسساتها وآليات إنتاج السلطة التداولية. وفي الفصل الثالث، نتتبع الإخفاقات التي لحقت بالعملية السياسية نتيجة الخروج المتعمد من قبل أطراف كثيرة عن قواعد المرحلة الانتقالية، والتأثر السلبي بتغيرات موازين القوى المحلية والإقليمية، وينتهي الكتاب بفصله الرابع شارحًا ومعاينًا الانزلاق نحو الحرب الأهلية، بفعل أوهام القوة.
لا يلقي متري الملامة فقط على الخارج، في تحمل مسؤولية ما آلت إليه حال تلك البلاد، فهو لا يتردد في تحميل النخب الليبية قسطها الوافر من المسؤولية السياسية والأخلاقية عن تفكك الدولة وخذلان مواطنيهم.
ما يميز طارق متري كممثل أممي في ليبيا، أنه عربي الانتماء، يتحدث بغيرة مخلصة، وحرص أكيد على مصير بلد عربي يراه كما بلدان عربية أخرى آيلة إلى الخراب والفوضى. يكتب بحسرة كيف تعددت الفرص الضائعة للخلاص، ويلقي ضوءًا كاشفًا على المشكلات البنيوية للدولة والمجتمع في ليبيا، كما نراها خصوصًا في مرآة الإرث الذي تركه حكم معمر القذافي.
كتاب "مسالك وعرة" في يومياته، وتفاصيله، وموضوعيته ورصانته، هو على الأرجح من أولى الوثائق والمرجعيات التي لابد منها لكتابة تاريخ ليبيا الجديد، ليبيا ما بعد الديكتاتورية وما بعد الثورة.